صار من المسلّم به طبياً، أنّ فيروس كورونا باقٍ معنا بدرجة أو بأخرى، وربما بمتحوّرات جديدة، وحتى إشعار آخر. استعصاؤه أدّى إلى الوقوع في الحيرة والتخمين بشأن تطوراته وهجمته التالية المرجحة وغير المعروف حجمها ولا آثارها وكلفتها. الشيء نفسه تقريباً ينطبق على أزمة أوكرانيا وتعامل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن معها.
تعذّر الإحاطة حتى الآن بحقائق ومقاصد الكرملين أو على الأقل تطويقها، أدى إلى التعاطي مع احتمالاتها ومآلاتها بكثير من الحيرة والظن. المشترك في الحالتين أن مفتاح فهم الأساس فيهما مفقود. لا الفيروس تمكن العلم بعد من تحديد طبيعته، ولا تحددت خطوة بوتين التالية وسقف أغراضه من حشوده العسكرية على الحدود الأوكرانية. كلاهما، من غير تشبيه، يخفي سرّ قوته بزئبقية وضعه. وبذلك، تبدو واشنطن وكأنها صارت أمام ما يشبه كورونا جيوسياسية أوكرانية، إلى جانب كورونا الصحية المفتوحة إقامتها على الزمن.
الأسبوع الأخير حفل بعلامات التذبذب لبوصلة إدارة بايدن في إدارتها للأزمة الأوكرانية. خطابها لم يخلُ من الغموض، مع ترجيح لكفة الليونة فيه، والحرص على الابتعاد عن "استفزاز" الكرملين. في المؤتمر الصحافي المشترك الجمعة لوزير الدفاع لويد أوستن ورئيس هيئة الأركان الجنرال مارك ميلي، جرى التنويه بأهمية "الحل الدبلوماسي المفضل"، مع تذكير كلا المسؤولَين بأن "الحرب ليست أمراً بات من المتعذر تجنبه"، وأن واشنطن تعتزم إرسال شحنات أسلحة إضافية إلى أوكرانيا.
لكن قبل يوم، انتشر كلام منسوب إلى مسؤول أوكراني بأن الرئيس بايدن أبلغ نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينكسي، خلال مكالمتهما الخميس، بأن واشنطن لن ترسل المزيد من الأسلحة إلى بلاده. وتردّد أن المكالمة الطويلة التي دامت ساعة وعشرين دقيقة، كشفت عن تباين في المقاربة لاحتمالات الحرب التي رأى بايدن أنها "وشيكة"، فيما ترى كييف أنها ما زالت مسألة "غامضة"، على الرغم من "خطورة الوضع". رافق ذلك تفاقم التباين مع الأوروبيين، وخصوصاً مع الألمان، الذين رفضوا حتى الآن تزويد أوكرانيا بالسلاح، على غرار بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي "الناتو"، مثل كندا، والدنمارك، وغيرهما. وقد ترك ذلك عدم ارتياح واضح لدى المسؤولين الذين تحدثوا بلغة الجزم عن أن أنبوب الغاز الروسي إلى أوروبا "نورد ستريم 2" "لن يحصل تشغيله... نقطة على السطر!"، لو غزت روسيا أوكرانيا، حسب تعبير وزارة الخارجية.
والمعروف أن ألمانيا لم تجهر بعد بمثل هذا الالتزام. وفي ذلك نفي مبطّن "للتطابق" الذي تزعمه الإدارة في الموقف مع الحلفاء الأوروبيين. وعاد هذا وتأكد من خلال المكالمة التي أجراها أمس الجمعة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي يبدو أنها حصلت من غير تشاور مسبق مع واشنطن. والقراءة أن هذه المبادرة تعكس السعي لمخرج دبلوماسي أوروبي، ولا سيما فرنسي ألماني، يُعتقد أن واشنطن لا تقوى على رفضه لو جرى التوصل إليه بصيغة تحفظ ماء الوجه لأطراف المأزق.
وقد تكون هذه الصيغة من نوع إعادة رسم الترتيبات والمعادلات الأمنية في أوروبا الشرقية، وبما ينطوي ضمناً على ضمانات تزيل القلق الروسي، من دون المسّ بميثاق "الناتو" وبابه المفتوح أمام الآخرين. وهناك احتمال آخر بوضع الملف في عهدة مجلس الأمن لاستخراج حلّ دولي. فقد دعت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، الخميس، المجلس "لبحث" الموضوع يوم الاثنين المقبل. ويذكر أنها كانت قبل 4 أيام في 24 الجاري، قد استبعدت مثل هذا التوجه "الذي لم يطرحه أحد على حدّ علمي، وهذا أمر يتقرّر في السياق الذي يراه مجلس الأمن مناسباً للنظر في هذا الموضوع"، وفق قولها.
الآن اختلفت الصورة. واشنطن مقسومة بين تشدد صارم يدفع نحو "عقوبات مسبقة لردع الكرملين"، وتشدد محسوب تقوده الإدارة بهدف تحقيق الردع المسبق. لكن الرئيس بوتين ما فتئ يمرر إشارات التشدد وزيادة الحشود والتوسع في مطالبه، لإثبات أن موسكو تمسك بالمبادرة، بما يمكّنها من إملاء ما استطاعت من الشروط. بالنهاية، هو "يملك القدرة على الاجتياح" كما قال الجنرال مارك ميلي، وبالتالي، إنّ "دورنا محدود بدعم الحلفاء إن احتاجوا، وبمساندة أوكرانيا".
ويلاحظ أن عبارة "دعم التمرد" على الغزو، خرجت من التداول الرسمي في الأيام الأخيرة. وكأن دبلوماسية الإدارة طرأ عليها تعديل، أو بالأحرى كأن التشدد الروسي دفع باتجاه مثل هذا التعديل، وهذا ليس بجديد؛ فقبل أيام استقال نائب المبعوث الخاص للملف النووي الإيراني ريتشارد نيفيو لخلافه على ما ذُكر مع رئيسه بسبب "التراخي" في المفاوضات مع إيران. وذكرت أمس نائبة الناطق باسم الخارجية جالينا بوتر، أن المبعوث روب مالي يعود ليل الجمعة إلى واشنطن للتشاور.
كلفة الجائحة كانت وما زالت عالية جداً في أميركا، لكنها باتت بفضل اللقاح، تحت السيطرة نسبياً. أما كورونا الأوكرانية إذا تعذر احتواؤها، فإنها بحسابات واشنطن، تهدّد بتداعيات أدهى من كورونا الصينية .