الصدمة المستجدة عند قادة أوروبا، المتمثلة بعودة تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بشأن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، باتت أعمق في زمن الحرب.
فترامب، الذي لم يخف يوماً رغبته في التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل وحتى الكوري الشمالي كيم جونغ أون، عاد ليذكر ساسة القارة العجوز بطرحه في 2018 إمكانية الانسحاب من "الأطلسي"، وعدم استعداد واشنطن خوض حروب للدفاع عن أوروبا.
وفي ذلك العام، اعتقد الأوروبيون، وبينهم فرنسا وألمانيا، أن الرئيس الأميركي "الشعبوي" أراد بتصريحاته دفع حلفاء الضفة الأوروبية من الأطلسي نحو زيادة إنفاقهم الدفاعي إلى مستوى 2 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي.
لكن تشكيك ترامب بالمادة الخامسة من ميثاق "الأطلسي" حول اعتبار أي هجوم على دولة عضو هجوما على الجميع، ينسف أسس الحلف. ومنذ تأسس "الأطلسي" في عام 1949 كضمانة أمنية بعد الانتصار على ألمانيا النازية (توسع إلى 31 دولة، وبعضوية السويد يصبح 32 دولة)، لم يستخدم تلك المادة سوى مرة واحدة، بعد تعرض أميركا لهجمات "11 سبتمبر" (أيلول) 2001.
ولعل الأكثر إيلاماً للأوروبيين ليس فقط أن التصريحات جاءت في زمن الحرب الأوكرانية، التي ينغمسون فيها منذ عامين (بدأت في 24 فبراير/شباط 2022)، بل أيضاً في حقائق كُشفت بعد خروج ترامب من البيت الأبيض، ومن بينها ما كشفه كبير مستشاري ترامب مارك ميلي، ووزير دفاعه مارك إسبر، لمحلل الشؤون الدفاعية في "سي أن أن" الأميركية جيم شيوتو عن أن ترامب أوعز لهما بوضع خطة انسحاب من ناتو. وقال كبير مستشاري ترامب جون بولتون لشيوتو إن الأمر "كان بصراحة مخيفا، لأننا لم نعرف ما إذا كان سيفعل ذلك".
ما يقوله ترامب بلغة بسيطة هو: لن أدافع عنكم في حال تعرض دولة من ناتو إلى هجوم. وتلك تثير فزع الدول الصغيرة التي احتمت بعضويتها في ناتو.
والخشية الأوروبية من أن عودة سردية ترامب أمام الناخبين، مثلما فعل في جولاته عام 2016، ستخلق حالة شبيهة بانهيار الثقة بين ضفتي الأطلسي، فغمز ترامب من زاوية أنه إذا فاز فسيكون قادراً على محادثات جيدة مع "رئيس دولة كبيرة"، فهمه الأوروبيون بأنه يعني به الرئيس الروسي بوتين. وفي ذاكرة أوروبا ما يُذكّرها بإعجاب ترامب ببوتين وغيره، حتى وصل الأمر إلى حد إبداء رغبة بإجراء "استعراضات عسكرية"، على الطريقتين الروسية والكورية الشمالية.
وبالطبع منذ 2018، التزمت دول ناتو بإنفاق 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على العسكرة. وحدثت تطورات في السياق الأطلسي الأوروبي، بانخراط غير مباشر في الحرب الأوكرانية، وتوسع عضوية الحلف نحو فنلندا والسويد، والتزام أميركي-غربي بالدفاع عن دول الحلف في "دول البلطيق" السوفييتية السابقة (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا)، ودخلت واشنطن نفسها في اتفاقيات مع دول في القارة تعزز انتشارها العسكري في قواعد دائمة.
وبرغم أن رسوخ علاقة ضفتي الأطلسي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، غير مرتبط بلون الحكام فيهما، إلا أن عودة ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض يمكن أن يخلخلها، خاصة مع توقع استمرار الحرب الأوكرانية. أضف إلى ذلك أن الامتعاض الشعبي الأميركي من توفير الأموال لأوكرانيا يرفع منسوب مخاوف أوروبا من أن يصبح خطاب ترامب عن تخلي بلاده عن المادة الخامسة في ناتو بمثابة "رسائل خاطئة" لمن يشبهه فيها، ولمن يريد تصفية الحساب مع أوروبا، وروسيا في المقدمة. فحتى جو بايدن نفسه اعتبر أن "أي فرد يشكك في استمرارية هذا الوعد (الدفاع المشترك من الكل) يشكل خطرا على أمننا".
صحيح أن الرئيس الروسي بوتين أكد أخيراً أن بلاده غير مهتمة بمهاجمة ليتوانيا أو غيرها، إلا أن دول البلطيق وبولندا، وحتى فنلندا والسويد وبقية دول اسكندنافيا، لا يروق لهم التشكيك بتعهدات الحلف الأطلسي في الدفاع المشترك عن الدول الأعضاء، كما أن أوروبا شاهدت في نهاية العام الماضي توقيع بايدن على قرار يمنع أي رئيس أميركي الانسحاب من ناتو دون المرور على الكونغرس، لكنهم يعرفون أيضا أنه مع شعبوية ترامب كل شيء متوقع.
ماذا يمكن للأوروبيين أن يفعلوا مع عودة ترامب المحتملة؟
بعد تصريحات ترامب بين 2018 و2020 عن ناتو، فهم بعض الأوروبيين، بمن فيهم المستشارة الألمانية السابقة حينها أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئاسة المفوضية الأوروبية، أن الوقت حان لتفكر أوروبا بجدية بأن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها بمفردها.
ترسخ ذلك التفكير بعد الكشف عن أن ترامب قال لرئيسة المفوضية الأوروبية أوسولا فون ديرلاين في 2020: "إذا تعرضت أوروبا لهجوم فلن نأتي لإنقاذكم ومساعدتكم. وبالمناسبة، مات ناتو ونحن ننسحب"، وفقا لما نُقل في الصحافة الغربية عن المفوض الفرنسي في الاتحاد الأوروبي تييري بريتون.
ومع إدراك الأوروبيين صعوبة تغيير مزاجية وشعبوية ترامب، لا يكفيهم التعبير عن الصدمة والأسى لمواجهة عودته إلى البيت الأبيض. عليه، تسارعت اللقاءات والمباحثات الأوروبية، وتحديدا بين ما يعرف باسم مثلث فايمار، الذي يضم فرنسا وألمانيا وبولندا، وبمشاركة دول البلطيق، فالتقى رئيس وزراء بولندا الجديد دونالد توسك، الاثنين الماضي، بالرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز. والأخير اعتبر تصريح ترامب "يصب في مصلحة روسيا".
العنوان الرئيسي لدى الأوروبيين مجدداً هو العمل نحو "استقلالية أكثر في شؤون الدفاع"، بموازاة ناتو، وفق ما صرحت وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك، وذلك رغم وجود تحفظات لدى بعض الدول على جيش أوروبي مشترك أو ما شابه من خطط.
إذاً، لدى الأوروبيين، رغم أن بينهم ساسة يشبهون ترامب، إدراك بأن مسلمات ما بعد تأسيس ناتو في 1949 ليست ثابتة، فأميركا يمكن أن تخرج من أوروبا، أو تخفف انخراطها الدفاعي، وأن الأمر لا يرتبط باسم ساكن البيت الأبيض، بل بأن حليفهم التاريخي الأميركي يعيش إرهاق الضغط على جيوب دافعي الضرائب، وتوسع عدم الرغبة الشعبية بتمويل الحروب، ومنها الحرب في أوكرانيا.
صحيح أن ترامب قد لا يستطيع، بدون الكونغرس، الانسحاب من ناتو، لكنه في تفكير البعض الأوروبي قادر على تجميد مشاركة بلاده في تطبيق المادة الخامسة، وتلك إشارة كافية ليدب الذعر في أوروبا، وربما يعجل المسارعة نحو طاولة مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، وأوروبا من خلفها.