أميركا وذكرى الانسحاب من أفغانستان: مرض لا شفاء منه

14 اغسطس 2022
كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان فوضوياً (Getty)
+ الخط -

قد لا يحتاج المتابع لمشهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان قبل عام من اليوم، إلى قراءة الخلاصات التي تعجّ بها وسائل الإعلام الأميركية، ووكالات الأنباء العالمية، وما تتضمنه من تصريحات لمسؤولين كبار، وآخرين فضّلوا عدم الكشف عن أسمائهم، حول إخفاقات الحرب والانسحاب، أو كيف تتخبط الإدارة الأميركية مع اقتراب الذكرى الأولى للانسحاب، في كيفية إحيائها.

فمجرد العودة إلى "المرآة الخلفية"، كما يقول متابع، فقط لتذكر مشاهد الانسحاب الأميركي الفوضوي من هذا البلد، والتفجير الذي تبناه تنظيم "داعش" في مطار كابول خلاله، وأدى إلى مقتل 13 جندياً أميركياً، وحدها كفيلة بأن تنغّص على إدارة الرئيس جو بايدن، إحياء الذكرى، وتجعلها تتخبط في البحث عما يمكن توظيفه للحديث عن "انتصار".

فبعد عام على سقوط كابول بيد حركة "طالبان"، لا يزال الانسحاب من أفغانستان، يشكّل أحد أبرز إخفاقات بايدن، بعد حوالي 18 شهراً من رئاسته، بعدما فشل في استثمار الحدث الذي مهّد له سلفه الجمهوري دونالد ترامب، لصالح الديمقراطيين.

وإذ تعيد الذكرى الأولى للانسحاب، ذكريات الحرب الطويلة وفشل الولايات المتحدة وحلفائها الذريع في بناء أفغانستان "حرّة وديمقراطية"، كما أرادت حين غزت هذا البلد في 2001، انقلبت العديد من الأحداث منذ سقوط كابول في 15 أغسطس/آب الماضي، والتي كان من الممكن أن توظّف كـ"إنجاز"، على إدارة بايدن، من الانسحاب الذي تحوّل كارثياً، إلى خطط توطين اللاجئين الأفغان في الولايات المتحدة، والتي لم تستكمل بعد، أو حتى تصفية زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري في كابول أخيراً. إذ حتى في اغتيال خليفة أسامة بن لادن، تحوم أسئلة حول أهداف الحرب الطويلة التي لم تتمكن من استئصال التنظيم، الذي عاد زعيمه ليسكن في كابول بعد انتهائها.

بعد عام على سقوط كابول، لا يزال الانسحاب من أفغانستان يشكّل أحد أبرز إخفاقات بايدن

وفيما تلوح الذكرى، مع استمرار تدني شعبية بايدن في الداخل الأميركي، منذ الانسحاب، وعلى أعتاب انتخابات نصفية للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لا تقل تداعيات الانسحاب سوءاً، بعد عام، على واشنطن عموماً، إذ لم ينه البيت الأبيض ولا الاستخبارات الأميركية، ولا أي جهاز وزاري معني، بعد، تقييمه للانسحاب، والذي سيبقى على الأرجح سرّياً، ما يغيّب أي محاسبة للمسؤولين عمّا آلت إليه هذه الحرب، سواء في أفغانستان، أو على صعيد الولايات المتحدة، وإخفاقها في إدارتها والخروج منها بأقل الخسائر.

واشنطن والانسحاب من أفغانستان: وكأن شيئاً لم يكن

وتعيد شبكة "سي أن أن"، في تقرير لها بالذكرى الأولى للانسحاب الأميركي من أفغانستان، التذكير بما قاله الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي بعد عملية غزو خليج الخنازير الفاشلة في عام 1961، لقلب نظام الحكم في كوبا، من أن "للانتصار ألف أب، لكن الهزيمة يتيمة".

وتنقل وكالة "أسوشييتد برس"، في تقرير آخر، عن الباحث في شؤون منطقة جنوب آسيا في مركز "ويلسون" البحثي، مايكل كوغلمان، شعوره "بالصدمة لمدى قدرة واشنطن على وضع أفغانستان في المرآة الخلفية، وإكمال طريقها، وكأن شيئاً لم يكن".

وكان 6 مسؤولين أميركيين، قد أكدوا لشبكة "آي بي سي" الإخبارية، في 7 يوليو/تموز الماضي، أن إدارة بايدن بدأت تبحث كيفية التعاطي مع الذكرى الأولى للانسحاب الأميركي من أفغانستان، لتفادي الزلّات والأخطاء غير المدروسة، والتي قد تزيد من مشاكل الرئيس الأميركي.

وبحسب المسؤولين، فإن مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، كان قد بدأ التواصل مع وزارتي الدفاع والخارجية، ومع مسؤولي الاستخبارات، لمعرفة أين وصلت التقارير التي يعدّونها حول مراجعة الانسحاب، فيما تتحضر إدارة بايدن لعودة الانسحاب إلى دائرة الضوء، بعدما كان الحديث عنه قد خفت في خضم الحرب الروسية على أوكرانيا، وانشغال الأميركيين بتداعياتها.

ولم تَجهز، بعد عام على الانسحاب، المراجعة الشاملة التي يعدّها البيت الأبيض، حوله. وفيما يقترب المجتمع الاستخباري الأميركي من إنهاء تقييمه الخاص، فإن معظمه سيظل على الأرجح سرّياً. وأكد مسؤولون لـ"آي بي سي"، أن وزارتي الخارجية والدفاع، توشكان أيضاً على استكمال تقريريهما، من دون أن يقرّر البيت الأبيض بعد أي الخلاصات ستكشف، وأيّها سيحتفظ به الكونغرس.

ويؤكد مسؤولون أميركيون، وخبراء، في تقرير حديث لوكالة "رويترز"، أن إدارة بايدن لم تستخلص بشكل مناسب العبر من حرب أفغانستان، و"انتصار طالبان"، في الذكرى الأولى للانسحاب، كما لم تحصل أيّ محاسبة علنية، للانسحاب الفوضوي من كابول، والذي أدى إلى مقتل 13 جندياً في الخدمة، في 26 أغسطس/آب 2021، بانفجار في مطار كابول تبناه "داعش"، أو لترك الأميركيين وراءهم ملايين الأفغان يواجهون مصيرهم.

ويحتاج كل ذلك، إلى "إعادة فتح هذا الفصل من التاريخ، ومعرفة لماذا أخفقنا"، بحسب المفتش الأميركي العام لإعادة إعمار أفغانستان، جون سوبكو، في حديثه للوكالة، بعدما كان كلّف مهمة التحقيق في كيفية هدر 146 مليار دولار، من الأموال الأميركية التي صرفت لـ"إعمار أفغانستان".

وتحلّ الذكرى الأولى للانسحاب الأميركي الدموي من أفغانستان، فيما لا تزال شعبية بايدن تتراجع في استطلاعات الرأي، على الرغم من تمريره أخيراً حزمة مشاريع داخلية، لمواجهة التضخم، والحدّ من تفلت السلاح الفردي، ومحاربة التغير المناخي، كان يمكن أن ترفع أسهمه في استطلاعات الرأي.

وبحسب استطلاع رأي أجراه أخيراً موقعا "بوليتيكو" و"مورنينغ كونسالت"، نشرت نتائجه في 3 أغسطس الحالي، فإن 48 في المائة من الأميركيين فقط يدعمون قرار بايدن الانسحاب من أفغانستان اليوم، مقارنة بـ69 في المائة كانوا يدعمون القرار في إبريل/نيسان 2021، أي بعد شهرين من وصوله إلى البيت الأبيض. وبحسب الاستطلاع، فإن 28 في المائة فقط من الداعمين، هم من الجمهوريين.

وينتظر الحزب الجمهوري، حلول الذكرى، للانقضاض مجدداً على الإدارة الديمقراطية، لكن بايدن لم يفعل قبل عام سوى استكمال ما مهّد له سلفه الجمهوري، دونالد ترامب، حين أجرى مفاوضات مكثفة مع حركة "طالبان" في الدوحة، وتوصل معها إلى اتفاق حول جدولة الانسحاب الذي كان مقرراً بدايةً في مايو/أيار 2021.

لم ينه البيت الأبيض أو الاستخبارات الأميركية أو وزارتا الدفاع والخارجية، بعد تقييمهم، للانسحاب من أفغانستان

وكان تصميم ترامب على الانسحاب، قد أثار حفيظة وزارة الدفاع الأميركية، وتحديداً قائد القوات المشتركة مارك ميلي وقائد القيادة المركزية "سنتكوم" كينيث ماكنزي، اللذين كانا قد وقّعا في عهد ترامب على مذكرة صاغها وزير الدفاع آنذاك مارك إسبر، تحذر من مغبة الانسحاب من أفغانستان، ما سيؤدي إلى فوضى في هذا البلد، ويرفع من مخاطر الإرهاب في الولايات المتحدة.

والتزم بايدن بقرار ترامب، الذي لم تكن إدارته قد أعدّت أي خطة للانسحاب، أو لإعادة توطين الأفغان الهاربين مع الخروج الأميركي. ويقول منتقدو الرئيس الديمقراطي، إنه كان عليه طلب المغادرة، قبل حلول فصل الصيف، وقبل أن تكون حركة "طالبان" في أوجّ نشاطها.

الصين وروسيا ومحاربة الإرهاب في الميزان الأميركي

ولم تقيّم الاستخبارات الأميركية، ولا وزارة الدفاع، جيّداً، مدى قدرة الحركة على التقدم إلى كابول، أو حتى مدى انهيار القوات الأفغانية، في الحكومة التي تدعمها، والتي قضت عقدين في تدريبها.

وخلال إعلانه إكمال الانسحاب، قال بايدن إن البقاء في أفغانستان لم يعد يخدم المصالح الأميركية الوطنية، وإن الظروف على الأرض وفي المشهد الجيوسياسي، تجعل الانسحاب أفضل القرارات للمضي قدماً، مشيراً إلى تهديدات الصين وروسيا، والتي يصعّب البقاء في أفغانستان من مواجهتها.

ولاحقاً، أكد كتاب "الخطر" للصحافيين بوب وودورد وروبرت كوستا، أن وزيري الدفاع والخارجية في عهد بايدن، لويد أوستن وأنتوني بلينكن، فشلا في ثني الرئيس عن قرار المغادرة.

وجاءت تصفية الظواهري، في كابول، في 2 أغسطس الماضي، بضربة أميركية، لتفند حجج "المصالح الأميركية القومية"، وتؤكد بقاء أفغانستان، ملاذاً آمناً لـ"القاعدة"، الذي لا يزال يشكل أحد أكبر التهديدات "الإرهابية" للولايات المتحدة، فيما تضخّ واشنطن اليوم ملايين الدولارات، لدعم أوكرانيا في حربها ضد القوات الروسية، وتحول نشاط معظم أجهزتها الاستخبارية في منطقة آسيا، نحو الصين، وهو ما يشرحه أيضاً تقرير آخر لـ"أسوشييتد برس"، في الذكرى الأولى للانسحاب.

وفوق ذلك، لم تتمكن إدارة بايدن، بعد، على الرغم من رحيل حكومة عمران خان في باكستان، من التوصل إلى أي اتفاق جدي، وأمني عسكري خصوصاً، حول إدارة مرحلة ما بعد الانسحاب، مع أي دولة من دول الجوار الأفغاني، وحيث تسعى الصين وروسيا وإيران إلى ملء الفراغ الأميركي.

وكشفت "أسوشييتد برس" في تقرير لها، أخيراً، تأكيد المسؤول الثاني في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي أي إيه"، نائب رئيسها ديفيد كوهين، خلال اجتماع مغلق لقسم محاربة الإرهاب في الوكالة، أن محاربة "القاعدة" وتنظيمات متطرفة أخرى ستبقى أولوية للولايات المتحدة، لكن ميزانية الوكالة ومصادر تمويلها، ستتحول بشكل متزايد للتركيز على الصين. كما أن الغزو الروسي لأوكرانيا، قد سلّط الضوء على أهمية روسيا كهدف للاستخبارات الأميركية.

تؤكد تصفية الظواهري في كابول بقاء أفغانستان ملاذاً آمناً لـ"القاعدة"

وسيشيد بايدن، من دون شكّ في الذكرى الأولى، بإتمام أكبر عملية إجلاء خارجي جوي في تاريخ الولايات المتحدة، وقرار الانسحاب الذي أنهى أطول حروب أميركا، وهي الحرب التي قتل فيها 3500 جندي أميركي ومن جنود الحلفاء في حلف شمال الأطلسي.

ويقول البيت الأبيض، إنه ورث قراراً بالانسحاب من الإدارة السابقة، من دون أي خطة، فيما كانت علاقة الولايات المتحدة بحلفائها الغربيين في عهد ترامب، وبحلف الناتو، في أسوأ حالاتها. لكن حتى بايدن، فاجأ حلفاء بلاده، بقرار وتوقيت الانسحاب، الذي لم يطلعهم عليه، خلال زيارته الخارجية الأولى إلى بروكسل، في يونيو/حزيران 2021.

ويقول كريستوفر بوريك، مدير معهد الرأي العام في معهد مولنبرغ في بنسيلفانيا، لـ"أسوشييتد برس"، إن الانسحاب الأميركي من أفغانستان "شكّل لحظة محورية في عهد بايدن، لم يستطع الشفاء منها حتى الآن".

ويوضح أن "الأمور كانت تسير بشكل جيّد للرئيس، من حيث التأييد الشعبي لجهة إعادة الاستقرار للاقتصاد والتعافي من كورونا، وأمور أخرى تشكل أولوية للمواطن الأميركي، لكن الانسحاب حطّم صورة الكفاءة هذه، والتي لم يستطع بايدن بعد ترميمها".

وتشرح مجلة "فورين بوليسي" في تقرير لها صدر في يوليو الماضي، أن أياً من سياستي الولايات المتحدة، سواء "الانخراط في حدوده الدنيا" في أفغانستان، في تسعينيات القرن الماضي، أو الانخراط الأقصى، في 20 سنة من الحرب، لم يعودا عليها بالفائدة.

وترى المجلة أنه لتصحيح الصورة، على واشنطن الانخراط في حوار مع "طالبان"، ثم الدعوة لمؤتمر دولي دعماً لهذا البلد، أولاً لمساعدة الأفغان، ثم لتسهيل رصد أي خطر على أمن الولايات المتحدة، وهو ما يعني "انخراطاً بحجم وسطي".

(العربي الجديد، رويترز، أسوشييتد برس)

المساهمون