يُمكن تفكيك التاريخ الأمني للولايات المتحدة في المائة سنة الأخيرة إلى ثلاث مراحل أساسية. الأولى تدخّلها في عام 1917 بعد اعتداء ألماني على سفينة بريطانية كان على متنها أميركيون، في خضمّ الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، والثانية تدخلها بعد الاعتداء الياباني في بيرل هاربر عام 1941، في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، والثالثة بعد اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001. في كل تلك المراحل كان المعتدي طرفاً خارجياً، يدفع باعتدائه الأميركيين إلى الوحدة، وتالياً إلى تأييد أي رد فعل عسكري، مهما كانت كلفته. في السنوات الأخيرة تبدّلت المخاطر، فالعدو ليس طرفاً خارجياً، بل بات في الداخل الأميركي، مهدداً المجتمع بالانقسام للمرة الأولى منذ الحرب الأهلية الأميركية (1861 ـ 1865). تواجه الولايات المتحدة حالياً مليشيات متطرفة موصومة بـ"الإرهاب" مثل المتطرفين المؤمنين بتفوق العرق الأبيض، الذين برزوا بقوة في النصف الثاني من ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، وصولاً إلى اقتحام "كابيتول هيل" في 6 يناير/كانون الثاني الماضي. كما تواجه هجمات إلكترونية، بدأت على شكل اختراق لحسابات تابعة لمؤسسات ومصارف وشركات وأحزاب وسياسيين في السنوات الماضية، وصولاً إلى نشر معلومات مضلّلة عززها تفشي وباء كورونا وانتشار نظريات المؤامرة حوله وحول اللقاحات.
توقع أحد المراقبين الأمنيين تطور المعلومات المضللة
في السياق، تتطرّق التقارير الأمنية إلى عمليات إطلاق النار التي عصفت بالولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، والتي باتت أولوية أمنية ملّحة، وفقاً للكاتب في صحيفة "واشنطن بوست" نيك ميروف، الذي أعاد إلى الأذهان عملية إطلاق النار في إل باسو ـ تكساس، في 3 أغسطس/آب 2019. وهي مجزرة سقط فيها 23 قتيلاً و23 جريحاً، على يد المؤمن بتفوق العرق الأبيض، باتريك كرازيوس، الذي قطع مئات الكيلومترات فقط "لقتل اللاتينيين" بحسب قوله. وهو ما دفع وزير الأمن الداخلي بالوكالة في حينه، كيفن ماكالينان، إلى إصدار خطة "لمكافحة الإرهاب والعنف الموجّه". وكانت المرة الأولى التي تحدد فيها وزارة الأمن الداخلي مدى الخطر الذي يشكله المتطرفون المحليون والمتفوقون البيض، منذ إنشائها بعد اعتداءات 11 سبتمبر. وحددت الوزارة سابقاً "التطرف" رافداً رئيسياً لـ"الإرهاب الداخلي"، مشيرة إلى أن العنصريين البيض كانوا مسؤولين عن عمليات قتل في عامي 2018 و2019، أكثر من أي نوع آخر من المهاجمين من أعراق أخرى. وللوزارة ووكالاتها دور هام، لمسؤوليتها عن تأمين الحدود والموانئ والنقل وأنظمة الإنترنت، علماً أنها في العادة تترك أمر مراقبة الجماعات المتطرفة والتحقيقات المتعلقة بالإرهاب لمكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي". لكن حجم الموظفين فيها، الذي يبلغ ثمانية أضعاف عدد موظفي "أف بي آي"، أفسح المجال لانخراطها أكثر في مواجهة "الإرهاب الداخلي"، على الرغم من المخاوف من تأثير تمدد مهمة الوزارة على الحريات في الداخل. وأدت الوزارة دوراً في الفترة التي سبقت تنصيب الرئيس جو بايدن، في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، باستخدامها نظامها الخاص بـ"الإرهاب" لتحذير الجمهور من الهجمات التي تشنها الجماعات المحلية. وحذّرت من "بيئة تهديد متزايدة في الولايات المتحدة". وجاء في التحذير أن "المتطرفين العنيفين، المدفوعين بمحفّزات أيديولوجية، في سياق اعتراضهم على الانتقال الرئاسي (تحديداً اقتحام كابيتول هيل)، وفي ظلّ ادّعائهم المظلومية المبنية على معلومات كاذبة، يمكن أن يستمروا في التعبئة للتحريض أو ارتكاب العنف". وألمحت الوكالة على لسان وزير أمنها بالوكالة السابق، تشاد وولف، إلى أنها "لا تملك الحق لحماية كابيتول هيل"، في سياق تحديد مسؤوليتها الداخلية. ويعود السبب إلى أن دورها أساساً كان وقائياً وليس تحقيقياً، أي أنها تُصدر تنبيهات وتحذيرات وتقارير حول أعمال عنف محتملة، وتترك مهمة تطبيق القانون لـ"أف بي آي" أو الشرطة المحلية وغيرها من وكالات إنفاذ القانون. لكن الوزارة تعرضت للانتقاد من الحزب الديمقراطي في بورتلاند بولاية أوريغون، خلال الاحتجاجات التي عمّت البلاد بعد مقتل المواطن الأسود جورج فلويد على يد أربعة ضباط شرطة بيض، في 25 مايو/أيار الماضي في مينيابوليس بولاية مينيسوتا. وكان الرئيس السابق دونالد ترامب يدعم الحملة الأمنية على أساس رسالة "القانون والنظام"، التي رددها قادة وزارة الأمن الداخلي، والتي غذت تسييس الدور المحلي للوزارة. وهو ما دعا وولف إلى إبداء امتعاضه من السلوك المتناقض بين بورتلاند و"كابيتول هيل"، فقال: "أرّحب بدعوات الديمقراطيين والجمهوريين للتركيز على التطرف الداخلي، لكنني أشعر بالإحباط، بسبب خوضنا الأمر عينه في بورتلاند في الصيف الماضي، ولم يتحدث معنا أحد بهذا الشأن". لكن مهمة الوزارة لا يبدو أنها ستنتهي قريباً، فقد حذّرت المستشارة السابقة في الوزارة، إليزابيث نيومان، خلال جلسة استماع في الكونغرس، في الشهر الحالي من احتمال استمرار "التهديد الداخلي من 10 إلى 20 عاماً". ما يعيد إلى الأذهان حديث الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش عن "الحرب على الإرهاب"، بعد 11 سبتمبر، والتي "ستستمر أكثر من 10 سنوات". وهو ما يضفي المخاوف من احتمال تطوّر الإرهاب الداخلي، وتطوّر أساليب مواجهته في المقابل. وعدا مخاطر العنصرية واليمين المتطرف، فقد شدّد محللون وأمنيون أميركيون، في معرض قراءتهم للتحولات الأمنية في الفترة الماضية، على ضرورة التركيز على "الإرهاب الداخلي" وأولويته على حساب الاختراق الإلكتروني من جهات خارجية، مثل روسيا وإيران والصين، وعلى الديون وعلى الاقتصاد العالمي. وتطرق أول مسؤول لأمن المعلومات في الولايات المتحدة، غريغ توهيل، في مقال كتبه لموقع "هوملاند سيكيوريتي توداي"، إلى مسألة التقدم المشجع في تطوير لقاحات كورونا وكيف أنه يجب أن يكون توزيع اللقاح وتطبيقه على نطاق واسع على السكان الأميركيين أولوية قصوى، لكنه توقف عند ضرورة أن يتزامن توزيع اللقاحات، مع "الجمع الدقيق والكامل للبيانات المرتبطة به"، خصوصاً في ظل المعلومات المضللة التي تنتشر.
واعتبر أن "الأمر سيشكّل تحديات خاصة لصانعي السياسات، بفعل الانغماس في معالجة القضايا التي عمدوا إلى تأجيلها سابقاً، مثل أمن الهوية والخصوصية". وركز توهيل على المعلومات المضللة، كجزء من الحرب الإلكترونية، وعرّفها كالتالي: "إنها الإنشاء المتعمّد للمعلومات الخاطئة، المصممة قصداً لاستدعاء ردود حادة والتأثير على الجماهير المستهدفة. وما يعزز قوة هذه المعلومات، هو مشاركتها بطريقة غير مقصودة من مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي، من دون التحقق من مصدرها ودقتها". وأعطى مثالاً على ذلك حين تمّ "استخدام المعلومات المضللة للهجوم على نزاهة نظام الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة والمؤسسات الأميركية". وتوقع "استمرار ضخّ المعلومات المضللة، وحتى تطويرها". ورأى أن "حملات التضليل الإعلامي عززت الاستقطاب الحاد للنسيج الاجتماعي الأميركي، حتى أن البعض توقع أننا نتجه نحو حرب أهلية"، مشيراً إلى أنها "قد تكون معلومات مضللة مصممة عن عمد للتحريض على العنف". ودعا إلى اعتماد ثلاث خطوات، أولها إعلام الجمهور بأنهم يتعرضون للهجوم، وعلى صانعي السياسات من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، العمل على هذا الأساس. ثاني تلك الخطوات، منح الشعب الأميركي الأدوات اللازمة لمواجهة التهديد، عبر تغيير قواعد توجيه الإعلانات والمحتوى الرقمي إلى الجمهور، إذ تحلّل المنصات سجلات التصفح الخاصة بك وتقدّم المحتوى الذي تعتقد أنك ستهتم به. فهي تتبع المكان الذي ترغب في الحصول على معلوماتك منه وتعطي الأولوية لتلك المصادر. والنتيجة هي أن العديد من الأميركيين عالقون في مكان لا يرون فيه سوى معلومات مصممة لتتوافق مع آرائهم المسبقة والمفضلة.
التحقيقات المتعلقة بالإرهاب تترك بالعادة لـ"أف بي آي"
واعتبر أن الجهات الخبيثة تدرك هذا وتغذي تلك المحركات لتوجيه المشاعر والآراء لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. وقال: يمكننا تغيير الخطاب العام من خلال تشجيع الجمهور على "تغيير القناة" والبحث عن مصادر معلومات أخرى، بما في ذلك تلك التي لا تتبنى آراء أو استنتاجات نتشاركها بشكل طبيعي. أما ثالث تلك الخطوات فمحاسبة كل من ينشر معلومات مضللة. من جهته، رأى نائب المدير السابق لوكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك بالولايات المتحدة ماثيو ألبنس، في رأي كتبه لموقع "هوملاند سيكيوريتي توداي"، أن الهجرة وأمن الحدود، سيكونان عنوان العام الحالي، معتبراً أنهما تراجعا قليلاً في الفترة الماضية، بسبب كورونا. وأبدى اعتقاده بأن الخروج من التحديات التي يفرضها وباء كورونا، سيؤدي إلى انفجار الوضع الحدودي. ووضع خطوة إدارة جو بايدن بتجنيس ملايين المهاجرين في سياق إدراكها خطورة هذا الملف. في المقابل، اعتبر المساعد السابق في إدارة وكالة أمن البنى التحتية والأمن السيبراني "سي. آي. أس. إيه"، براين هاريل، أن الشركات اعتادت أمنياً على تأمين شبكاتها وبنيتها التحتية، من دون التطرق إلى "الطرف الثالث". وذكر في حديث لموقع "هوملاند سيكيوريتي توداي "، أن المخترقين تمكنوا من التغلغل عبر "الطرف الثالث" في أي تعامل إلكتروني. ودعا هاريل إلى التنبه من تزايد النشاط السياسي المتطرف، من اليمين إلى اليسار، تحديداً حركة "كيو أنون" اليمينية المتطرفة. وذكر المسؤول السابق في وزارة الأمن الداخلي، توم إيسيغ، أن "أميركا قادرة على الانتصار بحرب تقليدية، لكننا الآن نبدو كمنزل منقسم، وهو ما يمنح الفرصة لخصومنا لضربنا". وقال في حديث لموقع "هوملاند سيكيوريتي توداي": "لم نتمكن من التوصل إلى وضع حدّ للخصوم".