أكبر أزمة في فرنسا: ماكرون يتسبب بأقصر ولاية حكومية

06 ديسمبر 2024
ميشال بارنييه في الإليزيه، نوفمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استقالة رئيس الحكومة ميشال بارنييه بعد فشل التفاوض مع البرلمان الفرنسي، مما أدى إلى أزمة سياسية معقدة في ظل تحديات دولية مثل عودة ترامب والغزو الروسي لأوكرانيا.
- يواجه ماكرون ضغوطًا من اليسار واليمين المتطرف، مع مطالب بإجراء انتخابات مبكرة وفشل تمرير ميزانية الضمان الاجتماعي، مما أدى إلى تقديم مذكرتين لحجب الثقة.
- يسعى ماكرون لتعيين رئيس وزراء جديد بسرعة لتجنب إغلاق حكومي، مع تحديات اقتصادية كبيرة تتضمن توفير 60 مليار يورو لسد العجز في الميزانية.

لم يكن في حساب رئيس الحكومة الفرنسية ميشال بارنييه، الذي فاوض بنجاح باسم الاتحاد الأوروبي للخروج البريطاني منه بعد "بريكست"، قبل أعوام قليلة، أن يخسر بهذه السرعة معركة التفاوض مع القوى المتناحرة داخل البرلمان الفرنسي، ويضطر أمس الخميس، إلى تقديم استقالته أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد ثلاثة أشهر فقط على تسلّمه مهامه. وبينما تدخل فرنسا في أزمة سياسية قد تكون غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، بعد حجب البرلمان الثقة عن حكومة بارنييه، في خطوة لم تحصل منذ 1962، رمى خصوم ماكرون من اليمين واليسار الكرة في ملعبه، لاختيار طريق الخروج من المأزق. فمع سيناريوهات متعدّدة تواجه فرنسا اليوم، قبل أقل من شهر على انتهاء العام واحتمال عدم تمرير الميزانية المقبلة، يطلب اليسار المتصدر في البرلمان رأس الرئيس والذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة، أو اختيار رئيس حكومة من صلبه، فيما يضع اليمين المتطرف شروطاً قاسية أمام أي خليفة لرئيس الحكومة المستقيل، من شأنها أن تطيح سياسات ماكرون المالية التقشفية.

سيناريوهات عدة لأزمة فرنسا

سيناريوهات عدّة ترتسم للمرحلة المقبلة في فرنسا، والتي تأتي أزمتها في توقيت حسّاس مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وأزمة ائتلاف حكومي في ألمانيا، وبلوغ الغزو الروسي لأوكرانيا منعطفاً خطيراً. إلا أن هذه الأزمة كانت متوقعة إلى حدّ كبير، بعد الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها ماكرون الفرنسيين بداية الصيف الماضي، والتي استحال من بعدها التعايش بين ثلاث قوى كبيرة في البرلمان، متناحرة ومتناقضة، لم يملك فيها الإليزيه الأكثرية، فيما كانت حسابات ماكرون القائمة على إمكانية استمالة اليمين المتطرف، والتفاوض معه، خاطئة.

يطالب حزب فرنسا غير الخاضعة الرئيس بالاستقالة

ويمكن القول إنه منذ تكليف ماكرون اليميني ميشال بارنييه، لتشكيل الحكومة في 5 سبتمبر/أيلول الماضي، بعد حصوله على دعم اليمين المتطرف لتمرير حكومته في البرلمان، كان الجميع يدرك أن جلسة الموازنة الفرنسية، التي تعتمد عادة في الخريف أو بداية الشتاء، ستكون الاختبار الأساسي لاستمرارية هذه الحكومة، أو سقوطها. فمنذ فشل ماكرون وحزبه النهضة، بالحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان، بعد انتخابات يوليو/تموز الماضي، وحلول تحالف اليسار المكون من الاشتراكيين وحزب فرنسا غير الخاضعة الراديكالي والخضر والشيوعيين، أولاً، بـ182 مقعداً، ثم تحالف ماكرون الوسطي بـ166 مقعداً، واليمين المتطرف ثالثاً بـ143 مقعداً، من أصل 577 مقعداً في البرلمان، حضرت فكرة التعايش الصعب حتى عام 2027، موعد الرئاسيات المقبلة، بين الإليزيه والسلطة التشريعية، التي رفض ماكرون اختيار رئيس جديد للحكومة من أكثريتها اليسارية، ما جعل الشلل الحكومي، أو تبدل الحكومات حتى موعد الرئاسيات المقبلة، أحد السيناريوهات المطروحة، فضلاً عن إمكانية دعوة الرئيس إلى انتخابات مبكرة جديدة الصيف المقبل، أو تقديم استقالته المبكرة.

وفاقم الأمر، أن اليمين المتطرف، الذي فضّل ماكرون التفاوض معه لتمرير حكومة بارنييه، ولاحقاً على الميزانية، واجهت زعيمته مارين لوبان قضية طلب السجن لها وحرمانها من الترشح لأي منصب رسمي، على خلفية اتهامات باختلاس أموال خلال فترة عضويتها في البرلمان الأوروبي. القضية التي برزت الشهر الماضي، يقول المتابعون إنها ساهمت في تشديد لهجة لوبان حيال الإليزيه، وموقفها من الحكومة، إذ كلّما كان بارنييه يقدّم تنازلات جديدة في ملف الميزانية، كان الحزب يرفع السقف الأكثر.

في كل المعايير، كان من الصعب على تحالف اليسار في فرنسا واليمين المتطرف، تمرير ميزانية الضمان الاجتماعي الثلاثاء الماضي، التي اقترحها بارنييه، لأسباب انتخابية اعتبرت من قبلهم انتحاراً سياسياً، لا سيما أنها تطيح العديد من المكتسبات الاجتماعية للفرنسيين، واقتطاع مما يرون فيه حقوقاً أساسية لا مساومة عليها، لما تحمله من عناصر تقشفية، كان الهدف منها تخفيض عجز الميزانية. هذا الأمر، دفع بارنييه إلى الإعلان عن عزمه استخدام الصلاحيات التنفيذية، والبند 49.3 من الدستور، الذي يتيح تمرير الميزانية دون تصويت البرلمان. واستدعى ذلك سريعاً تقديم اليسار واليمين المتطرف مذكرتين لحجب الثقة عن حكومته، وهو ما تمّ التصويت عليه مساء أول من أمس الأربعاء، بأغلبية 331 صوتا، ليصبح بارنييه رئيس الحكومة الذي بقي في منصبه أقصر مدة زمنية بعهد الجمهورية الخامسة، والثاني الذي يستقيل بعد حجب الثقة عن حكومته في البرلمان، في هذه الجمهورية، بعد جورج بومبيدو في 1962.

اليسار واليمين المتطرف يشترطان

وترى الكتلتان الكبيرتان في البرلمان الفرنسي، اليمين المتطرف واليسار، أن بارنييه ليس المحرّك الرئيسي لهذه الأزمة السياسية غير المسبوقة، بل يتحمّل مسؤوليتها ماكرون، الذي وضع رئيس حكومته في عين العاصفة، وقد يضع من يخلفه في الموقف نفسه إذا لم يختر طريق الاستقالة المبكرة. وبموجب المادة 50 من الدستور الفرنسي، يجب على رئيس الحكومة تقديم استقالته بعد حجب الثقة عنه، وهو ما فعله بارنييه أمس، فيما أدار ماكرون اجتماعات مكثفة مع المقربين منه وحلفائه، لبحث سبل الخروج من الأزمة، لا سيما أن البلاد مهدّدة بالإغلاق الحكومي في 31 ديسمبر/كانون الأول الحالي، إذا لم يتم إيجاد مخرج لأزمة الميزانية. وقد لا تكون لفرنسا ميزانية لـ2025 قبل انتهاء العام الحالي، ما يعني التجديد الأوتوماتيكي للميزانية الحالية، إلى حين اختيار رئيس للحكومة المقبلة وتجديدها.

قد لا تكون لفرنسا ميزانية لـ2025 قبل انتهاء العام الحالي

ودعت رئيسة الجمعية الوطنية، يائيل براون بيفيه، أمس، ماكرون، إلى الإسراع في اختيار خليفة لبارنييه، الذي قد يكلّفه الرئيس بتصريف الأعمال إلى ذلك الحين. ومن الأسماء التي ظلّت مطروحة، حتى عصر أمس، وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو، وحليف ماكرون الوسطي فرانسوا بايرو، رئيس حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية، ورئيس الحكومة ووزير الداخلية السابق برنار كازنوف (الاشتراكي سابقاً). وأكد حزب فرنسا غير الخاضعة أمس، أنه لن يمنح الثقة إلا لرئيس حكومة من أكثريته، ولا حتى لكازنوف، مؤكداً أن الأخير انسحب من المعسكر اليساري. ودعت ماتيلد بانو، رئيسة كتلة الحزب في البرلمان، ماكرون إلى الاستقالة والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة. أما زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، الحريصة على إطفاء قلق قاعدتها الشعبية من إمكانية الإغلاق الحكومي من دون موازنة، فقد أكدت أول من أمس، بعد حجب الثقة عن الحكومة، أنه بمجرد اختيار ماكرون لرئيس حكومة جديدة، فإن حزبها "سيدعه يعمل"، وسيساعد في وضع "ميزانية تكون مقبولة من الجميع". وقالت مبرّرة خطوتها، إن انهيار الحكومة "هو السبيل الوحيد الذي أتاحه لنا الدستور لحماية الفرنسيين من موازنة خطرة وغير عادلة بل وعقابية".

ونقلت وكالة رويترز عن ثلاثة مصادر، أن ماكرون يعتزم تعيين رئيس جديد للوزراء بسرعة، وقال أحدهم إنه يريد تسمية شخص جديد لتولي المنصب قبل احتفال بإعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام غداً السبت يحضره ترامب. لكن لا ضمانة أن يستمر رئيس الحكومة المقبل، أيضاً، طويلاً في منصبه، بعد بارنييه، وهو رئيس الحكومة الخامس في عهد ماكرون منذ 2017.

وتضعف جميع هذه التطورات ما تبقّى من ولاية ماكرون الثانية، فيما كان الرئيس يسعى إلى توفير حوالي 60 مليار يورو في الميزانية المقبلة لسدّ العجز، ذلك أن فرنسا، ثاني أقوى قوة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي، تواجه أزمة ديون هائلة، فيما كان الإليزيه يأمل تخفيفها عبر خفض الإنفاق وفرض ضرائب جديدة. ويوم أمس، سعى الرئيس الفرنسي إلى إظهار نفسه حامياً للمؤسسات الدستورية، فيما كان موظفو القطاع العام يتمسكون بإضراب كان مقرّراً ضد ميزانية بارنييه، رغم تفاقم الأزمة، وعدم اعتمادها (بعض الخبراء الاقتصاديين، كانت لهم وجهة نظر بأنه بإمكان الحكومة تمريرها رغم حجب الثقة، وهو أمر مستبعد).

والأزمة الحكومية المتسارعة في فرنسا نتيجة حتمية للحسابات الخاطئة للرئيس، الذي دعا أولاً إلى انتخابات مبكرة، لم تأتِ لمصلحته، في وقت كان صعود اليمين المتطرف في البلاد مرئياً، وعاد ليحتل الصدارة لاحقاً في الانتخابات الأوروبية. ومن بين الأهداف التي كان يريدها ماكرون، من الانتخابات المبكرة، تجنيب حكومة غابريال أتال السابقة، السقوط في فخّ حجب الثقة في البرلمان لدى تقديمها مشروعها الميزانية هذا العام، لو بقيت، وهو ما عاد الرئيس ووقع فيه، بحسب تقرير نشرته أمس صحيفة لوموند الفرنسية. وأكد زعيم حزب الجمهوريين اليميني في البرلمان، لوران فوكييه، أمس، أن حزبه لن يسقط أي حكومة مقبلة في البرلمان، تحملاً للمسؤولية الوطنية، حتى لو لم يشارك اليمينيون فيها. من جهته، نفى وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو في حديث إذاعي أن يكون مرشحاً للحكومة، معتبراً أن أكثر أمر مهم اليوم هو أن "ينفصل الحزب الاشتراكي عن حزب فرنسا غير الخاضعة".

المساهمون