لا جديد يمكن أن يضيفه المرء في شرح أهمية العاصمة الفلسطينية المحتلة، القدس، لدى الشعب الفلسطيني أولا، وللتاريخ والتراث العالمي ثانيا، إلى جانب قدسيتها لدى أتباع الديانات السماوية. النضال الفلسطيني، لا بل الوجود الاجتماعي والثقافي للفلسطينيين، طالما شكلت المدينة حجر أساس فيه. وغالبا ما كانت أحداث وحوادث المدينة، تاريخيا في العمق الزمني الممتد، أو في التاريخ المعاصر، موجّها لنضال الفلسطينيين، وتمدّهم بشحنة عاطفية وروحية عالية، لموقعها الوطني والديني لديهم. نجح أبناء المدينة ونجحت العاصمة في إعادة ضبط مسار التحرر الفلسطيني، فلا يمكن تخيّل أن تعود الأمور إلى سابق عهدها لا في القدس، ولا في كل فلسطين التاريخية. نجح المقدسيون في شدّ همم الفلسطينيين وانتباه العالم المتجاهل وهم يحمون مدينتهم في حي الشيخ جرّاح، وفي فرض حريّة حركتهم وممارسة طقوسهم بباب العمود والحرم، أو على الأقل أفشلوا كل الإجراءات الاحتلالية، وحولوا القدس إلى مساحة اشتباك استدعت الفلسطينيين جميعا. سيتّفق كثيرون على أن الفلسطينيين مرة واحدة وبشكل يكاد يكون استثنائياً قد وحّدتهم القدس، فسقطت أحكام الجغرافيا وتقسيماتها، وعاد الاحتلال يواجه الشعب الفلسطيني على كامل الأرض الفلسطينية، بين النهر والبحر، ومن طبريا حتى رهط والنقب. وتحوّل الاشتباك بين نظام الاحتلال العنصري والشعب المُستعمَر إلى واقع، بدد كل مشاريع "الأسرلة" والتذويب التي اشتغل عليها هذا النظام لعقود طويلة. التفاعل والأحداث التي فرضت نفسها داخل الجغرافيا الفلسطينية، قد أحدثت تأثيرا لا يقل أهميّة بين الفلسطينيين في دول اللجوء والشتات، ولدى الرأي العام الشعبي العالمي. فإلى جانب إعادة السرد الفلسطيني للصراع مع الاحتلال الاستيطاني العنصري إلى أوليّاته، شعب تحت الاحتلال العنصري يناضل للتحرر واستعادة أرضه وحقوقه، انخرط قسم كبير منهم في المشاركة بحملة التوعية الشخصية أو المنظمة التي باتت حاضرة بقوة، إن كان ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو الاحتكاك المباشر مع مجتمعات يعيشون بينها.
مواجهة الهجمة على القدس، وانخراط قوى المقاومة في غزة وتصاعد الاشتباك في الضفّة، إلى جانب العصيان المدني الذي يتوسّع في الأراضي المحتلة في العام 1948 أسقطت برامج سياسية قسّمت الشعب، وبددت طاقاته لعقود خلت. فكيف يمكن أن يكمّل هؤلاء من هم في الخارج (فلسطين ودول اللجوء)، ولاسيما المقيمين في أوروبا ومن في حكمهم، للمقتدرين في الدول العربية وباقي بلدان العالم، حلقة المواجهة مع الاحتلال العنصري في بلادهم؟
واحدة من القضايا الهامّة التي ينبغي العمل عليها ربما هي إيجاد أشكال دعم صمود الفلسطينيين في فلسطين، بكافّة الأشكال. كمبادرة لتأسيس صندوق شعبي فلسطيني لدعم الشعب الفلسطيني، بحيث يتمكن الأفراد العاديّون من دعم صمود قطاعات الشعب على أرضنا بدعم بنيتها التحتية الصحيّة والتعليمية، الاقتصادية والثقافيّة.
بحكم سيطرة قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بمقاليد "الصندوق القومي الفلسطيني"، وترشيد صرف أرصدته بما يلائم الخط السياسي لتلك القيادة تحت سقف حل الدولتين، والمشاكل الكبرى التي يعاني منها هذا الصندوق كاحتكار قيادة السلطة لقراره، وغياب الشفافيّة فيه وما أثير عن اختلاسات كبيرة وقعت على مدار العقود الماضية، من بين أهمّ ما أثير منها هي قضية المستشار الاقتصادي للرئيس الراحل ياسر عرفات، محمد رشيد أو (خالد سلام). الصندوق الرسمي كان قائما على تبرعات الأفراد والحكومات، وكان يستثمر قسما من تلك التبرعات الواردة في مشاريع اقتصادية متعددة، لا يتوفّر لدينا للآن أي مراجعة علنية أو كشف حساب قدّمه هذا الصندوق، كما هو حال مختلف جوانب وأنشطة النظام السياسي الفلسطيني وقواه التنظيمية والسياسية.
فكرة الصندوق، أو الصناديق البديلة، القائمة على التبرعات الفردية الشعبية أساسا، يمكن لها إن جرى دراستها بعمق أن تطبّق بطرق قانونية شفّافة، وبعقلية إدارة عصرية كفؤة من بين أفراد مستقلين يُتوافق على خبرتهم ونزاهتهم. أفكار كهذه قد تشكل رافعة لحضور سياسيّ أقوى لفلسطينيي الخارج وتوطيد صلاتهم مع أقرانهم في الداخل، وحضورا عمليا يستعيض الدعم الموجّه والمشروط الذي تقدمه الجهات الدولية والعربية، أو قسما من ذلك الدعم. عمليا هذا ممكن، على الأقل في بلدان يستطيع الفرد فيها أن يساهم بمبلغ شهري مقداره خمسة دولارات مثلا، فإذا شارك نصف مليون فلسطيني فالحديث هنا عن نحو 2.5 مليون دولار شهريا، وهو رقم لا يستهان به إذا جرت المواظبة على تأمينه من خلال التبرعات الدورية. لننظر مثلا إلى الفاتورة الشهرية لكهرباء غزة، أو القطاع الصحي هناك والتعليمي.. إلخ، سنجد أن كل مساهمة مهما كانت متواضعة، مع مرور الوقت والمواظبة تشكل فارقا.
يمكن لفكرة الدعم الاقتصادي عبر هذا الصندوق أو ما شابهه، أن تطرق أبواب دعم وإسناد جديدة، لا بل الاستثمار والتنمية في القرى والبلدات الفلسطينية كالقطاع الزراعي أو الصناعات المرافقة له، إن كان من ناحية دعم الفلّاحين بالماكينات وطرق الزراعة الحديثة، وتسويق وشراء محاصيلهم، أو بتحويل العادات الاستهلاكيّة إلى مساحة ثقافية وماديّة تصلّب السردية الفلسطينية وتمدها بأسباب البقاء. الفلسطينيون في أوروبا والأميركتين، في الخليج، فرضا إن توجهوا إلى استهلاك الزيوت الفلسطينية، التمور، وكل ما ينتجه الفلّاح والشركات الغذائية الفلسطينية، بتغيير عاداتهم الاستهلاكية سيدعمون صمود الفلاحين وعائلاتهم فوق أرضهم. أيضا التواصل مع تجّار ومستوردين في تلك الدول لتشجيعهم على شراء وتسويق تلك المنتجات، خاصة أولئك الذين يتركز نشاطهم التجاري على استيراد المواد الغذائية التي يستهلكها أبناء وبنات الجاليات في بلدان اللجوء والاغتراب.
وجها لوجه مع حقائق الاحتلال
من جهة أخرى، يمكن إعادة تنظيم حملات التضامن والدعم عبر قوافل بريّة أو بحريّة تتوجه إلى غزة وباقي فلسطين، وتكثيف الأنشطة المشابهة التي يمكن أن تقدّم دعما عينيا للمدنيين الفلسطينيين ودعما معنويا وإعلاميا. أو على سبيل المثال تنظيم فعاليات رالي في دول عدة على الدراجات أو مشيا لجمع التبرعات والتوعية بالقضيّة الفلسطينية، كما فعل نشطاء سويديون وفلسطينيون منذ أشهر في السويد، حين قطعوا مئات الكيلومترات على دراجاتهم يجمعون أموالا لدعم صناعة أطراف للأطفال الفلسطينيين، الذين فقدوها برصاص الاحتلال في غزة أثناء قمع فعاليات مسيرات العودة منذ نحو عامين. الآن في ظلّ المواجهة وموجة الاشتباك الحالية في فلسطين كلّها، فإن حجم المبادرات يجب أن يتسع ويتناغم، يتشابك، مع حجم الاحتياجات المشابهة. فهنا قد يحتاج الفلسطينيون أطرافا صناعية، لا سمح الله، وهناك يحتاجون بكل تأكيد تعليما جيدا، صحة مستقرة، دعم العوائل المحتاجة والأيتام والأرامل، إعادة بناء وترميم المؤسسات المدنية المدمّرة أو بنائها من الصفر.
إن الاتكال على تغير مواقف الحكومات والمؤسسات الدولية، أو ما يوصف اصطلاحا بـ "المجتمع الدولي"، لن يقدم جديدا لفلسطين وشعبها، بل هو جزء من المشكلة والتركة الثقيلة، ما يمكن البناء عليه ويمكن أن يشكل فارقا هو التغير الملموس والمتواصل للرأي العام الشعبي، تحديدا في الدول الغربية التي شكّلت بعضها على المستويات الثقافية والسياسية قلاع للسردية الصهيونية، والتي باتت كما نشهد تنحسر هنا، وتتفكك هناك. في هذه الزاوية شكّل الحضور الراهن والفيزيائي الإنساني الفلسطيني في تلك الدول، فرصة هامة لتقديم سردية فلسطينية إنسانية لمضلّلين وجاهلين كثر بحقيقة وطبيعة الصراع. عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين وصلوا إلى أوروبا ودول أخرى باتوا مواطنين يحق لهم التصويت والترشح للانتخابات ويتحدثون لغات إضافيّة. بالفعل هذا وقع في الانتخابات السويدية البلدية الفائتة، والانتخابات البرلمانية الهولندية، لأن ثقافة
العمل السياسي في تلك الدول قائمة على ديمقراطية نسبية تسمح بالتواصل المباشر بين السياسي وناخبيه، وقيمة الإنسان والصوت في اللعبة السياسية هناك هي "رأسمال اللعبة". تفعل حملات التواقيع والرسائل التي تحمل مطالب محددة، كالموقف من جرائم الاحتلال وانتهاكاته المتواصلة في فلسطين، مفاعيل يمكن من خلال التنظيم الجيّد والخطاب البيّن، مترافقة مع تغطية إعلامية بلغات تلك البلدان، أن تدفع السياسيّ أو الشخصية المؤثرة دفعا من أجل أخذ موقف واضح من تلك الجرائم.
حملات المناصرة الإلكترونية ممتازة، لكن يحتمل التواصل الإنساني وجها لوجه أن يشكل فارقا إضافيا، وهذا، كما أظن، يحدث بشكل يوميّ لأبناء الجاليات الفلسطينية من خلال تواصلهم مع جيرانهم وزملائهم في الدراسة والعمل، وأصدقائهم ومعارفهم. لكن لنتخيّل أن هناك بنية أساسيّة لهذا الخطاب مُتفقٌ عليها، لا أعني بالضرورة خطابا لمشروع وطنيّ جامع، إنما خطابا يقدم فيه الفلسطيني أسسا لا توضّح للمتلقي فحسب بل تخلق لديه وعيا، كالتركيز على طبيعة الفصل العنصري والتمييز القائم عليه الاحتلال، على تاريخ وحاضر تهجير المدنيين وطردهم وتهجيرهم، النهب المتواصل للبيوت والأراضي الفلسطينية، انتهاكه المستمر بحق الإنسان الفلسطيني.. وما أكثر ذلك، تاريخ الاحتلال كلّه كذلك. ها قد بدأت السمة العنصرية الفاشيّة لنظام الاحتلال تتضح وتتأكد من خلال ما تقدمه وتوثّقه مؤسسات حقوقية تتمتع إلى حدّ لا بأس به بالحيادية كـ "هيومن رايتس ووتش"، مركز "بيتسيلم"، و"أونروا" وما شابه، تضمين الخطاب الحقوقي الفردي والجماعي في هذا التواصل اعتمادا على ما يتم توثيقه من جرائم وانتهاكات، وأيضا المشاركة الحثيثة في تعزيز وتعميم حملات المقاطعة لإسرائيل ومنتجات مستوطناتها، ودعم الحملات من خلال المقاطعة نفسها ومن خلال شرح أهمية التوقف عن شراء تلك المنتجات أو مقاطعة الاحتلال، كلّها أدوار مباشرة بالإمكان أن يقوم بها المرء.
أبناء الجاليات يقدرون أيضا على رصد ما ينشر في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، ومن خلال التفاعل يمكن تصويب ما ينشر وتصحيحه، إن بشكل فردي أو من خلال منصة معنية بذلك، تقدم المساعدة والإرشاد لأبناء الجاليات الذين يرغبون في تصويب ما يرونه اعوجاجا في النقاش والتغطية أو تصحيح الخلل فيه. الكتابة الجماعية مثلا للصحافيين والمحررين في الصحف والمواقع الإعلامية والقنوات، تعترض، تصوّب وتحتج، أو تعاضد وتساند ما يقدمه ويسرده هؤلاء في تغطيتهم ومتابعتهم لفلسطين وصراعها مع الاحتلال.
كخلاصة، هناك كثير ممّا يمكن فعله لدى كل فلسطينيّ وفلسطينية خارج أرض الصراع، وما التفاعل الحالي مع الأحداث اليومية في البلاد المحتلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي وشوارع المدن، إلا دليل بسيط على إمكانية وجدوى الفعل. تثمير وتعزيز سردية فلسطين وحقوق شعبها لن يصير بلمحة عين أو بضربة واحدة. صراعنا الطويل الممتد مع هذا الاحتلال كان دائما صراعا بالنقاط وبالتراكم، وقد حازت فلسطين خلال فترة قياسية نقاطا هامة عدة، كوحدة شعبها المعنوية والكفاحية أو تأكيدا جديدا معاصرا على أن شطب الشعب وحقوقه ليس بالبساطة التي طاب للبعض أن يقنع بها. هذه العودة الزاخمة، وتصاعد الروح النضالية بين الفلسطينيين، يلزمهما قليل من التنظيم والتفكير، حدّ أدنى من المبادرة والتواصل البيني، ومن التركيز على تعزيز نقاط هامة باتت في متناول اليد. أن يقدّم الفلسطينيون مبادراتهم بما يتناسب مع حاجاتهم وظروفهم، وقضيتهم الوطنية، لهو الأساس بكل تأكيد، كيّ تتعزز أواصر النضال، وينتظم مجرى كفاح الشعب التحرري، أينما كان.