عندما اجتاح الغوغاء مبنى الكابيتول، مقر الكونغرس الأميركي، انحنت عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا سوزان وايلد في ممر ضيق بين المقاعد في قاعة بالطابق العلوي، وراحت تتنقل ببطء متجهة إلى الناحية الأخرى من القاعة، فيما كان أنصار الرئيس دونالد ترامب يدقون بأيديهم على الأبواب.
قالت وايلد (63 عاماً) في وصف الحصار التاريخي للمجمع الذي يضم مجلسي النواب والشيوخ، يوم الأربعاء، "عندها بدأ الأمر يصبح مرعباً حقاً". ودوت طلقات الرصاص بعد أن وضعت قناع الغاز وهي تتحسس كيفية تشغيله، وضاعت منها فردة حذاء مدة وجيزة وهي تجر نفسها صوب باب الطوارئ.
وأضافت في مقابلة مع "رويترز" أن أحد رجال الشرطة صاح "انبطحوا أرضاً. انبطحوا أرضاً. انبطحوا أرضاً!" بينما تعالت الصرخات.
قبل ذلك بلحظات، وبينما كان مئات المشاغبين يقتحمون المبنى، عمد ضباط شرطة الكابيتول إلى تحصين النواب داخل قاعة مجلس النواب، حيث كانوا قد بدأوا الخطوات الأخيرة للمصادقة على أصوات المجمع الانتخابي التي أظهرت فوز الديمقراطي جو بايدن على ترامب في انتخابات الرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني.
قالت وايلد النائبة الديمقراطية "لم يصل الأمر إلى حد الرعب فعلاً إلا عندما تصاعدت الأمور".
وبعد يوم واحد من الاختراق الأمني التاريخي للمبنى الأيقوني ذي القبة الشهيرة، روى نواب حكايات عن اللحظات العصيبة التي مروا بها في نجاتهم من خطر جسيم خلال الهجوم الدامي الذي شنه الغوغاء، بتحريض من ترامب على حدّ قول كثيرين.
وقال عدد منهم لـ"رويترز" إن كبار مسؤولي الأمن في الكابيتول طمأنوهم أنهم سيكونون بمأمن قبل الاحتجاجات المزمعة، وأن كل الأمور تحت السيطرة.
وبينما تطايرت الاتهامات في الكونغرس، قال مسؤولون في أجهزة أخرى من الحكومة إنه كان بإمكانهم توفير مزيد من رجال الأمن لتأمين الكابيتول، لكنهم لم يتسلموا طلباً بذلك من أحد من شرطة الكابيتول.
وقال مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية إن الوزارة كانت على اتصال بشرطة الكابيتول الأسبوع الماضي وحتى يوم الأحد، ولكن قيل لها إن الشرطة لن تحتاج مساعدة من الحرس الوطني.
وقال مساعد وزير الدفاع لشؤون الدفاع الداخلي والأمن العالمي كينيث رابوانو: "سألنا أكثر من مرة وكان الردّ الأخير الذي تلقيناه يوم الأحد" الثالث من يناير/كانون الثاني الجاري "أنهم لن يطلبوا مساعدة من وزارة الدفاع".
ودفع الحصار الذي فقد فيه خمسة أشخاص أرواحهم، أحدهم ضابط شرطة، وأصيب فيه ما يصل إلى 60 ضابطاً بجروح، النواب إلى المطالبة بالتحقيق في الثغرات الأمنية.
وسرعان ما توالت التداعيات، إذ إن قائد شرطة الكابيتول سيقدم استقالته. كما قالت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إن قائد حرس المجلس سيستقيل. وقال السيناتور تشاك شومر أكبر الأعضاء الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، إنه سيعزل قائد حرس المجلس.
وفي مقابلات مع "رويترز" وتصريحات علنية، أبدى أعضاء الكونغرس استياءهم الشديد من فشل شرطة الكابيتول، وهي قوة قوامها ألفي فرد مخصصة لحراسة حرم الكابيتول، ومن فشل أجهزة أخرى.
وقال أحد أقرب حلفاء ترامب وأكبر المدافعين عنه ليندسي غراهام إن كثيرين من المقتحمين كانوا يحملون السلاح أو يحملون حقائب على ظهورهم لم تفتشها الشرطة، و"كان من الممكن أن يفجروا المبنى. كان من الممكن أن يقتلونا جميعاً. كان بإمكانهم القضاء على الحكومة".
وتساءل في مؤتمر صحافي "كيف لم نكن مستعدين؟"، وأضاف أنه لو كان رجال شرطة الكابيتول في الجيش "لصدرت أوامر بإعفائهم من مناصبهم القيادية، ولتم تقديمهم لمحاكمة عسكرية على الأرجح" وحوكموا عن جرائم أمام محكمة عسكرية.
ولم ترد شرطة الكابيتول على طلب للتعليق مساء يوم الخميس. وفي وقت سابق من اليوم الجمعة، أصدر قائد شرطة الكابيتول ستيفن سوند بياناً أشاد فيه بتصدي ضباطه لوضع يفوق قدراتهم. وأضاف أن الوحدة كانت لديها "خطة متينة" للتعامل مع "الأنشطة المتوقعة بمقتضى التعديل الدستوري الأول".
ووصف سوند، الذي وافق يوم الخميس على تقديم استقالته، "أعمال الشغب الواسعة" بأنها "إجرامية"، وقال إن ضباطه تصرفوا "ببطولة في ضوء الوضع".
"نبذل أقصى ما في وسعنا"
على مدى أسابيع، ظل ترامب يحث أنصاره على المشاركة في مسيرة "جامحة" من أجل "إنقاذ أميركا" في عاصمة البلاد يوم السادس من يناير/كانون الثاني.
وفي الكلمة التي ألقاها في ذلك اليوم، كرّر مزاعمه، التي لا أساس لها، عن تزوير أصوات الناخبين في الانتخابات التي فاز فيها الديمقراطي جو بايدن، وحث أنصاره على الكفاح.
وقال عدد من أعضاء الكونغرس، لـ"رويترز"، إنه على الرغم من علامات الخطر التي سبقت الاجتماع الجماهيري الذي ألقى فيه ترامب كلمته، فقد طمأنهم كبار رجال الأمن في الكابيتول في لقاءات معهم أنهم لا يتوقعون أعمال عنف في الاحتجاج المزمع.
ونقل الأعضاء عن مسؤولي الأمن قولهم إنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى حرم الكابيتول، وإن الشرطة لديها من القدرات البشرية ما يمكنها من التعامل مع أي أحداث.
وقالت رئيسة لجنة الخدمات المالية في مجلس النواب ماكسين ووترز إنها نبهت سوند، قائد الشرطة، ومسؤولين آخرين فيها مراراً إلى الدلائل المتنامية على أن جماعات يمينية متطرفة مثل "براود بويز" و"أوث كيبرز" تخطط للتجمع في العاصمة الأميركية. وأضافت أنه تردّد كلام كثير على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي تركز على الكيفية التي ستحاول بها تلك الجماعات نقل السلاح خلسة إلى داخل العاصمة.
وقالت ووترز، النائبة الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا، إنها أجرت مكالمة هاتفية استغرقت ساعة مع سوند يوم 31 ديسمبر/كانون الأول. وقالت لـ"رويترز" في مقابلة "طمأنونا أن كل شيء تحت السيطرة".
وبينما كانت ووترز تشاهد تطورات الوضع على شاشة التلفزيون في مكتبها، وصفت المشاهد في اتصال بقائد الشرطة الذي قال لها بكل هدوء عدة مرات "نحن نبذل أقصى ما في وسعنا". وردت هي قائلة "هذا لا يكفي"، ثم أنهت المكالمة معه.
ولم تستطع "رويترز" التواصل مع سوند للتعليق مساء يوم الخميس.
أما النائب الديمقراطي عن ولاية أوهايو تيم رايان، فكان يعمل في مكتبه بالكابيتول عندما اقتحم الغوغاء المبنى يوم الأربعاء.
وقال النائب إنه حاور قائد شرطة الكابيتول أيضاً قبل اللقاء الجماهيري، الذي خطب فيه ترامب في الناس، وقائد حرس مجلس الشيوخ، وأكد له الاثنان أنهما لا يتوقعان أعمال عنف وأنهما أخذا احتياطات لإبعاد المتظاهرين عن الكابيتول.
وأضاف رايان للصحافيين في مؤتمر صحافي بالفيديو "ثم تفتح التلفزيون وتفاجأ بهم يتدلون من مبنى الكابيتول رافعين الرايات".
وتساءل رايان عما إذا كان المسؤولون قد أجروا ما يكفي من تقييم التهديدات وجمع المعلومات قبل الاحتجاجات المزمعة.
وقال إنه أبدى مخاوفه من احتمال وقوع أعمال عنف لكبار مسؤولي الأمن في الكابيتول قبل الحدث، لكن قيل له إن الاحتجاجات ستكون "بسيطة جداً" و"ربما بعض العراك".
رفض عروض المساعدة
قال وزير الجيش رايان مكارثي إنه لم يتم التخطيط عسكرياً لوضع طارئ في الكابيتول، لأن شرطة الكابيتول لم تتقدم بأي طلبات في الفترة التي سبقت الاحتجاجات.
وقال مسؤولون في وزارة الدفاع أيضاً إن تقارير الاستخبارات التي قدمتها أجهزة إنفاذ القانون لم تشر إلى أي تهديدات من نوع العنف الذي تفجر يوم الأربعاء. وقال المسؤولون إن التقديرات المتوقعة الواردة في هذه التقارير للمشاركين في الاحتجاجات تفاوتت بشدة بين ألفين و80 ألفاً.
وقال مكارثي "كانت في غاية التفاوت"، مشيراً إلى أن الجيش يعتمد على أجهزة إنفاذ القانون في الحصول على معلومات عن التهديدات المحتملة خلال أي احتجاج. وأضاف "لذا كان الوضع صعباً للغاية".
أما العدد الفعلي للمشاركين في الاحتجاجات فكان من الصعب تقديره، لكن العدد كان بالآلاف بما يكفي للتغلب على رجال الشرطة عند اقتحام مبنى الكابيتول.
وقال رابوانو، مساعد وزير الدفاع، إن الاجتماعات، التي شاركت فيها أجهزة مختلفة برئاسة وزارة العدل، بحثت ما تردد من مناقشات في منتديات المؤيدين لترامب على وسائل التواصل الاجتماعي حول مظاهرات السادس من يناير/كانون الثاني. لكنه أضاف "التقييم العام الذي حصلنا عليه مراراً هو أنه لا يوجد ما يشير إلى احتجاج عنيف على نحو جسيم جلل".
كما قالت مصادر مطلعة على التخطيط في وزارتي الأمن الداخلي والعدل إن الوزارتين لم تتلقيا طلبات لتخصيص قوات أمنية للكابيتول مسبقاً، على النقيض مما حدث في الصيف الماضي عندما تم نشر القوات خلال الاحتجاجات المناهضة للعنصرية.
وقد أرسلت وزارة العدل 500 من ضباط إنفاذ القانون من مكتب التحقيقات الاتحادي وأربعة أجهزة أخرى إلى الكابيتول يوم الأربعاء، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد بدء أعمال الشغب.
وقال قائد شرطة واشنطن السابق تشارلز رامزي إن الاختراق الأمني يعكس تخطيطاً سيئاً وإخفاقاً على مستوى القيادة.
وقال رامزي لـ"رويترز": "كان يجب أن يبدو المشهد خارج الكابيتول وكأنه من "صراع العروش"، مشيراً إلى المسلسل التلفزيوني الشهير الحافل بالعنف. وأضاف "كان يجب أن يكونوا على الأرض بكامل عتادهم. كان يجب أن يكونوا مستعدين".
تحذيرات هزيلة
كانت عضو الكونغرس نكيما وليامز قد وصلت يوم الأحد إلى الكابيتول لأول مرة، بصفتها النائبة الديمقراطية المنتخبة عن ولاية جورجيا في الانتخابات الأخيرة.
وروت لـ"رويترز" كيف أنها راحت تحملق في الأسقف وتلتقط الصور، فيما كان يدور بخلدها "إنني في مبنى أشعر فيه بالأمن والأمان ولا أحد يمكنه النفاذ إلى هنا".
تبدد ذلك الإحساس بالأمن بعد أيام. فقد وصلت صباح يوم الأربعاء لتجنب الزحام المتوقع، ولم يكن هناك ما يقلقها. وكانت تشاهد التصويت على شاشة التلفزيون في مكتبها، وأدركت أن شيئاً غير عادي يحدث عندما شاهدت مسؤولين يرافقون نانسي بيلوسي وهي تخرج من القاعة.
وقالت إن رسائل البريد الإلكتروني الرسمية الخاصة بالأمن كانت غامضة وافتقرت إلى التفاصيل عما يحدث. وأضافت وليامز "لولا تويتر ومجموعات الرسائل النصية والبريد الإلكتروني التي كنت فيها لما كانت لدي أي معلومات".
وقال النائب الديمقراطي الجديد جمال بومان إنه كانت لديه ترتيبات واجتماعات أمنية أقوى في المدرسة الإعدادية التي كان ناظرها في مدينة نيويورك. وتابع أن أعضاء الكونغرس تلقوا إخطاراً ينصحهم بالوصول إلى مكاتبهم مبكراً والبقاء داخل المبنى بسبب الاحتجاجات المتوقعة، لكن لم يتم إطلاعهم على الوضع الأمني، ولم يتلقوا أي رسائل عن مخاطر محتملة داخل المبنى.
وقال "كانت نكبة. أنا مذهول. أن آتي إلى الكونغرس الذي يفترض أنه أكثر الأماكن أمناً في البلاد، وبعد ثلاثة أيام يحدث اقتحام الكابيتول".
(رويترز)