أساليب النضال الفلسطينية... الجدوى والإمكانية

29 اغسطس 2021
المقاومة الشعبية باتت ضرورة أيضاً (عباس مومني/فرانس برس)
+ الخط -

طرح سؤال أو للدقة طرحت الأسئلة عن أساليب النضال المجدية والفعالة في ضوء الضرورة والإمكانيات من حيث الزمان والمكان، ولا تزال مطروحة على الساحة الفلسطينية منذ انطلاق الثورة المعاصرة قبل ستة عقود تقريباً، والحقيقة أن الاتجاهات الثلاثة في الساحة السياسية - اليمين واليسار والتيار الإسلامي - قدمت اجتهاداتها وإجاباتها عن تلك الأسئلة لفترات متعاقبة، وناضلت بصدق لتحقيقها إلى أن وصلنا الآن لوضعية باتت فيها الأسئلة مطروحة عليها جميعاً في وقت واحد بظل الحالة الهجينة والمركبة وغير المسبوقة، ربما التي يعيشها المشهد الفلسطيني ما بين مرحلتي التحرر الوطني والاستقلال.

قدمت حركة فتح إجاباتها عن الأسئلة مبكراً جداً، ومنذ تأسيسها منتصف ستينيات القرن الماضي، حيث سعت إلى استنساخ خيار حرب التحرير الشعبية وفق نموذج جبهة التحرير الوطني في الجزائر التي ضمّت اتجاهات وخلفيات سياسية وفكرية قاتلت وجاهدت معاً في إطار جبهوي حتى تحقيق الاستقلال، غير أن فتح واجهت التعددية الواسعة والعميقة في الساحة الفلسطينية حزبياً وسياسياً وفكرياً، ولذلك كنوع من التأقلم وجدت المخرج في منظمة التحرير باعتبارها الإطار الجبهوي الموسّع فلسطينياً بقيادة فتحاوية طبعاً وبنفس ذهنية النموذج الجزائري.

إلا أن استمرار فترة النضال الفلسطيني لعقود طويلة – عشر سنوات مرّت تقريباً منذ تأسيس جبهة التحرير حتى الاستقلال في الجزائر - والاختلاف الكبير بين المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين ونظيره الفرنسي في الجزائر، كما أزمات ومشاكل فتح المتعددة والعميقة أدت مجتمعة إلى تعثر المشروع الوطني بقيادتها خاصة بعد مروره بنفق اتفاق أوسلو المظلم، بينما بدا لافتاً جداً تحوّل فتح كحزب سلطة إلى نسخة من النموذج السلطوي المستبد الفاسد والفاشل لجبهة التحرير الجزائرية، لذلك كان السقوط المدوي للجانبين في الامتحان الوطني والديمقراطي والنزيه مع كامل الاحترام طبعاً ودون نكران أو التقليل من التاريخ الطويل للجانبين في مواجهة الاستعمار الصهيوني والفرنسي.

قدمت الجبهة الشعبية والفصائل المنشقة عنها في نفس البيئة اليسارية إجاباتها في سبعينيات القرن نفسه مع اتباع المنهج الماركسي اللينيني، واستنساخ نموذج حزب التحرير الشعبي الفيتنامي باعتباره الأنسب والأجدى فلسطينياً بمواجهة المشروع الصهيوني في تجاهل لطبيعة الصراع، كما الاختلاف العميق متعدد المستويات بين البيئة الفلسطينية والعربية والإسلامية ونظيرتها الفيتنامية أو حتى الأميركية "الجنوبية والوسطى" التي قاتلت وانتصرت فيها حركات وأحزاب شيوعية وفق النموذج الفيتنامي. ومع الاحترام لما قدمته تلك الفصائل اليسارية إلا أنها فشلت أيضاً في إنجاز الحلم الوطني، وباتت حتى مع الوقت هامشية أو ذات قدرة ضئيلة على التأثير في المشهد الفلسطيني العام.

قدّم الإسلاميون إجاباتهم عبر حركتي حماس والجهاد الإسلامي في ثمانينيات القرن الماضي أيضاً، وفي الجوهر لم تختلف الإجابات عما سبقها من تجارب سوى إعطاء طابع أو إطار إسلامي للكفاح المسلح أو الجهاد بمعناه الشرعي، واستفاد الإسلاميون طبعاً من الصعود الإقليمي والعالمي للحركات والأحزاب الإسلامية. كما من انطلاق جهادهم في الداخل الفلسطيني، حيث ساحة الصراع المركزية، ما أعطاهم أفضلية نسبية، ومع ذلك ظلوا بشكل عام شركاء في إنجازات وحتى إخفاقات المشروع الوطني، وعجزه عن تحقيق الأهداف التي تُجمع عليها كافة الفصائل.

بعيداً أو ربما بالتوازي مع اجتهاد الفصائل قدّم الشعب الفلسطيني إجاباته، كما رأينا عبر انتفاضة الحجارة الأولى – 1987 - مثل النموذج مع تقدير التضحيات السابقة طبعاً أفضل وأجدى الإجابات عن أسئلة وأساليب النضال والفعالية والجدوى قياساً بالضرورة والإمكانيات، حيث جسّدت الانتفاضة مفاهيم المقاومة الشعبية بمعناها العام والشامل للصراع والاشتباك مع الاحتلال بالداخل وعلى الأرض الفلسطينية، علماً أنها، أي انتفاضة الحجارة، نسفت الأساطير المؤسسة للمشروع الصهيوني عن فلسطين كأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، كما هدّمت قاعدته القائلة إن ما لم يتحقق بالقوة لا يتحقق بالمزيد منها. وفي السياق العقيدة الصهيونية القتالية الثلاثية "ردع الأعداء وحرب قصيرة خاطفة خارج أرض فلسطين" التي وضعها مؤسس الدولة العبرية دايفيد بن غوريون في مواجهة الجيوش والأنظمة العربية.

مع تقديم الشعب والفصائل إجاباتها، وتحقيق إنجازات تراكمية لا بأس بها، والعجز بالمقابل عن تحقيق الهدف الاستراتيجي أو الحلم الوطني العام في الاستقلال والعودة وتقرير المصير، وفي ضوء جولات ووثائق الحوار الوطني المتعددة والمتنقلة بين العواصم والحواضر باتت الأسئلة نفسها مطروحة على الجميع وبوقت واحد، خاصة بعد تأسيس السلطة الوطنية - إثر الانتفاضة الأولى - ومرور الشعب والقضية في مرحلة غير مسبوقة ربما بين التحرر الوطني والاستقلال، ما يستلزم بالضرورة تقديم إجابات مختلفة وحتى نوعية خارج الشعارات التقليدية أي كانت خلفياتها الفكرية.

في هذا السياق قدمت وثيقة الوفاق الوطني، باعتبارها القاسم المشترك ولو الأدنى، إجابات معقولة جداً ومنطقية عن الأسئلة سالفة الذكر تحدياً في ما يخص الإطار القيادي المرجعي الأعلى المتمثل بمنظمة التحرير، مع احتفاظ السلطة بوظيفتها لخدمة الناس في مناحي حياتهم المختلفة، كما وضعت أسسا وبرنامجا فلسطينيا كامل الأوصاف لإدارة الصراع مع الاحتلال وفق خيار المقاومة الشعبية بكافة أشكالها وتجلياتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والقضائية والميدانية طبعا.

المقاومة الشعبية متاحة وهي أقل كلفة وأكثر جدوى، كما رأينا في الانتفاضة الأولى ونماذج بلعين ونعلين، وكما نرى الآن في الشيخ جراح وسلوان والقدس بشكل عام وبيتا ويتما وقبلان في الضفة الغربية وحتى غزة نفسها تلجأ إليها، مع استعصاء أو صعوبة اللجوء الدائم إلى الخيار العسكري أو الاشتباك المباشر مع الاحتلال.

المقاومة الشعبية باتت ضرورة أيضاً في ظل اتباع الاحتلال الإسرائيلي لفصل عنصري موصوف في الضفة الغربية وحتى في غزة أيضاً، قياساً بالمستعمرات الصهيونية المحيطة بها، علماً أنها، أي المقاومة الشعبية بمعناها الشامل، كانت فعالة ومجدية في مواجهة نظام الفصل العنصري الساقط في جنوب أفريقيا، ويحتاج الأمر فقط إلى تحديث أو إبداع فلسطيني شاهدناه ونشاهده يومياً في ساحات القدس والضفة الغربية، كما في غزة أيضاً.

في كل الأحوال لا يجب الاستمرار في تجاهل وثيقة الوفاق الوطني التي قدمت إجابات منطقية وواقعية ومجرّبة وتحتاج فقط إلى تحديث بسيط بعد عقد ونصف من إعلانها، لكن يفترض أن تركز الإجابة الأهم فلسطينياً عن سؤال الانقسام والبند الأهم فيها يتعلق بالتغيير القيادي الحتمي فبدون قيادة شابة جديدة منتخبة وديمقراطية ونقية من الاستبداد والفساد. لا يمكن الإجابة أو حتى الاستفادة من الإجابات الموضوعة عن أسئلة وأساليب النضال سالفة الذكر.

المساهمون