تدفع تطورات الأيام الأخيرة في تونس، منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد قراراته التي يراها كثيرون بمثابة انقلاب على الدستور، بتعليق عمل البرلمان وإقالة الحكومة ورئاسة النيابية العمومية، وما تلاها من إجراءات، إلى طرح تساؤلات حول قدرة التجربة الديمقراطية في تونس على الصمود بعد نحو عشر سنوات من الثورة التي أطاحت حكم الفرد الواحد. كما تثير جدلاً حول تقييم السنوات الماضية من عمر الثورة وما رافقها من إخفاقات اجتماعية ومكاسب سياسية، ليتساءل المراقبون هل أنتجت الديمقراطية التونسية طيلة العقد الماضي مقوّمات الحفاظ على نفسها؟ أم أن الفشل الاجتماعي والاقتصادي جعلها ضعيفة وهشة؟ وهل تتمسك المنظمات والهيئات والأحزاب التي ولدت من الثورة بثورتها؟ والأهم، هل تحوّل التونسي إلى مواطن ديمقراطي متشبث بقيمها لا يتنازل عنها، أم أن مطلبه الاجتماعي أهم؟ وما يثير المخاوف أيضاً عودة الحديث عن خيارات بين ثنائيات، بين الدولة القوية أم الحريات، وبين الديمقراطية أو التنمية، وكأنها لا تجتمع، خصوصاً مع فشل المنظومة الحاكمة في مواجهة مشاكل كبيرة عصفت بالبلاد ولا سيما الأزمة الصحية الأخيرة والتراجع الاقتصادي، فيما كان التونسيون يشاهدون الأحزاب تتصارع تحت قبة البرلمان.
وعن ذلك، يقول مدير مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي، عدنان منصر، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "ما حققه التونسيون طيلة السنوات العشر الأخيرة يجعل الناس في كل الحالات تتمتع بدرجة من اليقظة التي تجعلها منتبهة لأي تجاوزات تمس بالديمقراطية كخيار وكحريات عامة"، معتبراً أنه "ثبت من التجربة أن المطلب الاجتماعي أهم من المطلب الديمقراطي، وهو ما يجعلنا منتبهين إلى أن من مارسوا الديمقراطية في غياب الغاية منها وهي خدمة الناس بطريقة ديمقراطية والحفاظ على المكملات الديمقراطية، وليس الاهتمام فقط بصندوق الانتخاب، وتبين التجربة أنه عند العبث بالمطلب الاجتماعي تصبح الديمقراطية ثانوية، وتتضح الممارسة الشكلية للديمقراطية".
ويشرح أن "الديمقراطية هي نظام تداول الحكم في منظومة كاملة من التقنيات والعناصر المكملة لبعضها بعضاً، والجانب الاجتماعي وحسن إدارة الشأن العام هي الأهداف الحقيقة للديمقراطية"، معتبراً "أن عبارة ديمقراطية تحتاج تنسيباً لأنه لم يكن اتفاق واسع على أنها كانت ديمقراطية، فهناك كثيرون كانوا يعتبرونها ديمقراطية شكلية أو ديمقراطية فاسدة". ويرى منصر أن المؤسسات المنتجة للديمقراطية ليست وحدها قادرة على حماية الديمقراطية، ويجب أن يكون هناك قبول بالطريقة التي تُمارس بها الديمقراطية، فالناس يبحثون عن إدارة الشأن العام بالديمقراطية وليس الديمقراطية في حد ذاتها".
مبروك: حتى الدعوة للحوار أصبحت منبوذة عند بعض النخب، وهناك جبهة واسعة لا تؤمن بحق الاختلاف وبدولة القانون والمؤسسات
من جهته، يعتبر وزير الثقافة الأسبق، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، مهدي مبروك، في حديث مع "العربي الجديد"، أن ترسيخ الديمقراطية يحتاج إلى ساقين، ساق الحريات بالمعنى الليبرالي والديمقراطي، والساق الاجتماعية بمعنى الرخاء ومقاومة البطالة، مشيراً إلى أن "الارتباك والتعثّر الحالي كان متوقعاً، إذ يمكن أن تحصل انتكاسة واهتزازات اجتماعية، ويبقى الإيمان بالحريات راسخاً، ولكن يبدو أن ما اعتقدنا أنه راسخ لم يعد يقيناً". ويتابع: "استفقنا من الوهم وما سميناه السماء الواسعة من الديمقراطية والحريات والاحتكام إلى الدولة المدنية، وشعار لا خوف بعد اليوم، فكل هذا لم يعد يقيناً، وهناك حالة من الخوف يؤمل تبديدها لكي نطمئن"، مضيفاً أن هذا انعكس على الأولويات لدى فئات عدة، وسُجلت تقاطعات بين طروحات شعبوية ومن اليسار الراديكالي والطروحات التي لا تؤمن بالدولة وتمجد العسكر، وهي خليط من تدمير الإيمان بجدوى الديمقراطية، بل حتى قلب الأولويات، لافتاً إلى أنه حتى الدعوة للحوار أصبحت منبوذة عند بعض النخب، وهناك جبهة واسعة لا تؤمن بحق الاختلاف وبدولة القانون والمؤسسات.
ويلفت مبروك إلى أن "هذه المؤشرات الأولية تدفعنا إلى التوجس، وتجعلنا في حيرة، لكن ما يخفف من وطأة هذه التخوفات أن هناك أصواتاً من المجتمع المدني ومن منظمات وطنية بدأت تطرح هذه التخوفات، كذلك فإن مواقف رئيس الجمهورية خلقت نوعا من التباين، حتى داخل اليسار الراديكالي، فاليسار لن يذهب كتلة واحدة لمساندة الرئيس، وعبّر عن توجس من حكومة الشخص الواحد، وهي مخاوف واختلافات مهمة كي لا يبدو أن المستفيد الوحيد من الديمقراطية هي حركة "النهضة"، وأن ينتصر للديمقراطية خصوم الحركة أيضاً فهذا مهم".
لكن مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس يرى أيضاً أن "الديمقراطية لم تتغلغل بالقدر الكافي لدى التونسيين، فقد سُجلت انتكاسات حتى عند بعض المثقفين، فالشعوب لا تترسخ فيها الديمقراطية إلا بعد عدة عقود، والتجربة بيّنت أن التعثر ممكن، معرباً عن الخشية من عودة طرح ثنائيات غريبة، مثل الدولة القوية أو الحريات، والديمقراطية أو التنمية، والدولة أو الديمقراطية، وكأنها لا تجتمع، وهو ما يؤكد أننا لا نزال بعيدين عن الديمقراطية، والأطروحات الشعبوية التي تزدهر الآن ستكون على حساب الإيمان بالديمقراطية وترسيخها".
وعما يمكن أن ينقذ الديمقراطية، يشير مبروك إلى أهمية ضغط المجتمع المدني، وتوسيع الاستشارات المحيطة بالرئيس لتنبيهه إلى المخاطر، وإضافة إلى جيل الشباب الذي تطعم الحرية وعدم تنازله عن أهدافه، مبينا أن هناك الآن تقاطعات بين مناطق رمادية وتقاطعات بين المحلي والدولي ومسارات شخص الرئيس وأنصاره.
ومع أهمية الأحداث الأخيرة التي مرت بها تونس وجاءت نتيجة تفاقم أزمة سياسية وكذلك نتيجة أزمة اقتصادية خانقة، يرى مراقبون أن هذه المرحلة الفارقة سينتج عنها مسار مهم. وفي هذا السياق، يرى رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان، عبد الباسط بلحسن، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هذه المرحلة فارقة، فإما تتعمّق الأزمة وإما نجد الطريق للخلاص، وهذا ممكن بشروط، أولها الابتعاد عن إغراءات الحكم الفردي، لأن المشاكل الموجودة اليوم تتطلب جهداً جماعياً، ثم نقوم بالمحاسبة وكشف كل الجرائم التي اقتُرفت في حق الشعب التونسي، ومكاشفة ومحاسبة حقيقية، وأن نعود إلى مبدأ الحوكمة الجيدة من خلال حكومة تقوم على الكفاءة وشخصيات لها قيم ومبادئ ودراية بالشأن العام، وألا ننسى مرة أخرى أصحاب الشأن وهم التونسيون الذين ثاروا مرات كثيرة للتعبير عن غضبهم".
ويشدد على ضرورة "وضع اهتمامات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنقل والتعليم، كأولوية، وكل هذا بوصلتنا للمرحلة المقبلة، وهذا سيقودنا إلى إنهاء الأزمة والذهاب إلى الحلول الحقيقية بدل الذهاب إلى تنويعات جديدة على أزمة قديمة"، مضيفاً "ينبغي على جميع الأطراف الوطنية التي تتحلى بالقيم ولم تتلطخ أيديها بالفساد أو استعمال للنفوذ، أن تتعاون". ويرى بلحسن أن "السلطة التي حكمت البلاد خلال السنوات الماضية تسببت في انتكاسة معيشية للتونسيين نتيجة حصر اهتماماتها في مصالح سياسوية حزبية مصلحية بحتة، وإهمال الشاغل الأساسي الذي من أجله يُنتخب السياسيون وهو خدمة المواطنين"، موضحاً أن "همهم كان سياسوياً بحتاً، أي الاهتمام بالمناصب والمصالح، وأصبح نظامنا الديمقراطي هو نظام انتخابات تليها انتخابات، في حين أن القضايا الحقيقية للانتقال الديمقراطي هي الاستجابة للإصلاحات الكبرى وكرامة عيش الناس وحوكمة الشأن العام والاهتمام بقضايا الفقر والتهميش، وإضفاء قيم على السلوكات السياسية، وكل ذلك تم تجاهله فحادت البوصلة عن المسار وأصبحنا في ظل منظومة أزمة تنتج أزمة، وأصبح هناك نوع من العبث بالمجتمع وهو ما كشفته أزمة كورونا بوضوح".
السلطة التي حكمت البلاد خلال السنوات الماضية تسببت في انتكاسة معيشية للتونسيين نتيجة حصر اهتماماتها في مصالح سياسوية حزبية
ويؤكد بلحسن أن إنقاذ المسار الديمقراطي في تونس لا يزال ممكناً بعودة المؤسسات وحوكمة الحياة السياسية والحكم في البلاد وإصلاح ما أفسد في المرحلة الماضية والقيام بالإصلاحات الكبرى الضرورية، معتبراً أن "وضع مصالح المواطنين ومطالب التونسيين في قلب عملية الإصلاح يمكن أن ينقذ مسار الديمقراطية التونسية الناشئة". ويؤكد أن "التونسي يحلم بالديمقراطية وهناك رغبة حقيقية في ديمقراطية تقوم على كرامة الإنسان والحق في الحياة وعلى مؤسسات يمكن أن تضمن العدالة وحسن سير المؤسسات، وضمان العدالة"، لكنه يعتبر أن "المسار الديمقراطي في البلاد لا يزال طويلاً، وإدماج الديمقراطية داخل عقلية المواطن بشكل نهائي يتطلب مسألتين أساسيتين لم تتحققا بعد، الأولى هي استكمال البناء الديمقراطي أي القوانين وحقوق الإنسان والمحكمة الدستورية وبقية المؤسسات وكل الضمانات التي نلجأ إليها في حال الخلاف، وثانياً تعميم الثقافة الديمقراطية، في العائلة والمدرسة ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، وهذا يمكن أن يصل بنا إلى مواطن ديمقراطي". ويتابع: "يمكن أن نسرّع هذا المسار حتى لا يتواصل لسنوات طويلة، وبثقافة تطبيق القانون على الجميع وبالمساواة سنسرع في الثقافة الديمقراطية التي هي ليست شعارات وندوات وحملات موسمية".