لا يقتصر تعامل النظام المصري مع التعديلات الجديدة التي تم إقرارها على قانون الشهر العقاري بهدف تعظيم موارد الدولة، وتدخل حيز التطبيق في السادس من مارس/آذار المقبل، على الشق الاقتصادي البحت. بل أدى التعامل الدعائي الصاخب من قبل أجهزة النظام، ووسائله الإعلامية، لتخويف المواطنين من عدم الالتزام بالتعديلات الجديدة، وتجاهل تسجيل العقارات وعمليات البيع المختلفة، إلى أزمة شعبية لم تعد مكتومة، تصاعد دخانها عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وتطبيق التواصل الجديد "كلوب هاوس"، إلى حد الدعوة لتظاهرات حاشدة ضد النظام، بالإضافة إلى تحركات قضائية لإجهاض الإجراءات الجديدة قبل تنفيذها.
وتعيد هذه الأزمة إلى الأذهان الغضب الشعبي الذي تصاعد العام الماضي بسبب حملة إزالة المخالفات العقارية، خصوصاً في المناطق الريفية والقروية والدفع بالجيش لتنفيذها، ما أثار اضطراباً مجتمعياً واسع المدى، تراكمت صوره، حتى بلغ ذروته في تظاهرات سبتمبر/أيلول الماضي، في عدد من ضواحي القاهرة وقرى الجيزة ومحافظات الصعيد ذات الطبيعة الريفية.
وقالت مصادر حكومية، لـ"العربي الجديد"، إنه بعدما كانت التعليمات الواردة من دائرة النظام تُركز على ضرورة إلزام المواطنين بالتحرك لتسجيل ممتلكاتهم العقارية الشهر المقبل، بحجة تنفيذ التعديلات التشريعية الجديدة، تغيرت التعليمات للوزراء والمسؤولين في الساعات الأخيرة، عقب اجتماع عقده رئيس الوزراء مصطفى مدبولي مع لجنة تضم ممثلين للأجهزة والوزارات المعنية، ومنها المخابرات العامة والأمن الوطني والمالية والعدل، بغية تغيير الخطاب الصاخب الداعي لتسجيل الممتلكات لتخفيف وقعه على المواطنين، والتأكيد على كون التسجيل اختيارياً "ويهدف للمحافظة على ملكياتهم وحقوقهم".
يهدف السيسي لوقف أو إبطاء وتيرة توسع السوق العقارية الأهلية لصالح إنعاش سوق العقارات التابع للدولة
وأضافت المصادر أن هناك دوائر وشخصيات داخل المخابرات العامة والأمن الوطني تخشى إحداث هزة في الشارع، وانخفاض حاد في شعبية النظام بسبب زيادة الالتزامات الضريبية، وتعقيد إجراءات تسجيل العقارات على المشترين، وكذلك البائعين. وهي تروّج حالياً، في الاجتماعات الحكومية، لاتخاذ إجراءات تسهيلية تتعلق تحديداً بضريبة التصرفات العقارية التي أصبحت إلزامية لشهر العقارات وتسجيلها منذ يوليو/تموز 2018، لكنها لم تكن معروفة بالنسبة لجموع المواطنين بسبب عدم التزام الوحدات المحلية بضرورة سدادها لمد المرافق ونقل تبعيتها من البائع والمشتري.
وأوضحت المصادر أن هذه الدعوات من داخل النظام لتسهيل الإجراءات، وإن كانت تهدف في الأساس لتقليل الحنق العام على النظام، إلا أنها أيضاً تخدم أغراض ملاك العقارات والمقاولين من الفئات المتوسطة، الذين لا يملكون رخصاً للاستثمار العقاري والتجاري، ومن ثم يكونون خاضعين لسداد ضريبة التصرفات العقارية، وليس ضريبة الأرباح الصناعية والتجارية التي تطبق على المقاولين الكبار من أصحاب المشاريع السكنية الضخمة. ويناقض هذا الأمر مساعي وزير المالية محمد معيط، الذي يرغب في إخضاع هذه الفئة تحديداً للضريبة، بسبب تهرب نسبة لا تقل عن 90 بالمائة من بائعي العقارات في مصر من دفع تلك الضريبة أو تحميلها للمشترين، ومن ثم تعجز الوزارة عن التحصيل من جهة وعن تحديد أصولها العقارية من جهة أخرى.
وذكرت المصادر أن هناك هدفاً آخر للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير المالية من هذه المستجدات الضريبية، وفرض التسجيل لتوصيل المرافق للعقارات. ويتمثل الهدف في وقف أو إبطاء وتيرة توسع السوق العقارية الأهلية لصالح إنعاش سوق العقارات التابع للدولة، وأجهزتها التابعة لوزارتي الإسكان والسياحة والمدن الجديدة، وكذلك السوق العقارية الخاصة بالمستثمرين الكبار المشاركين للدولة في مشاريع العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها.
لكن هذه المساعي، التي تترقب إنعاش خزانة الدولة بمليارات الجنيهات، وترمي إلى أن ترسم للجهات المختصة صورة كاملة لحركة التعامل بالعقارات على مستوى الجمهورية، مهددة بالعديد من المخاطر القانونية، نتيجة سوء صياغة القوانين المنظمة لها، وتعارض بعضها بشكل كامل مع الدستور. ما دفع عشرات المحامين لبحث إمكانية الطعن بالإجراءات الجديدة بقانون الشهر العقاري بعد تطبيقها، فضلاً عن استكشاف فرص الطعن على ضريبة التصرفات العقارية القائمة حالياً، والتي ستزيد أهميتها بعد تطبيق إجراءات الإشهار الجديدة.
وبحسب مصادر قضائية رفيعة المستوى في محكمة النقض، فإن التعديلات التشريعية الجديدة فيها العديد من أوجه عدم الدستورية، على رأسها طريقة تنظيم الاعتراضات على إشهار مكاتب الشهر العقاري لأحكام إثبات الملكية، والتي تتضمن أن ينشر المكتب في ذات يوم إعطاء الحكم، أو في اليوم التالي على الأكثر، رقم إشهار مؤقتا، على نفقة الطالب في صحيفة "الأهرام"، إعلاناً يتضمن بيانات الحكم موضوع الطلب، والعقار محل الحكم، واسم الصادر لصالحه والصادر ضده الحكم، ودعوة من لديه اعتراض إلى تقديم اعتراضه على تسجيل الحكم، أمام قاضي الأمور الوقتية المختص خلال شهر من تاريخ النشر. وإذا انتهت المدة المنصوص عليها بالفقرة السابقة، ولم يقدَّم اعتراض، ممن لديه اعتراض أو من مكتب الشهر العقاري المختص، أمام قاضي الأمور الوقتية المختص، يتحول رقم الشهر الوقتي إلى نهائي، ولا يجوز الطعن عليه.
بحث عشرات المحامين إمكانية الطعن بالإجراءات الجديدة بقانون الشهر العقاري بعد تطبيقها
فنهائية القرار الصادر عن قاضي الأمور الوقتية تتعارض مع طبيعة القرار الصادر عن هذا القاضي دستورياً وقانونياً، لأنه لا يجوز له إلا أن يصدر قراراً وقتياً في دعوى تتعلق بموضوع تنازع معين، لحين بت محكمة الموضوع فيه. وبالتالي لا يجوز لتشريع جديد سلب سلطة محاكم الموضوع في الفصل، ومنحها لقاضي الأمور الوقتية. كما لا يجوز عدم إتاحة سبيل للطعن على القرار الصادر منه، بالمخالفة للمادة 97 من الدستور التي تنص على أن "التقاضي حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا. ويحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، والمحاكم الاستثنائية محظورة".
ومن جهة أخرى، فإن "الحظر الذي سيقرر على شركات الكهرباء والمياه والغاز، وغيرها من الشركات والجهات والوزارات والمصالح الحكومية من نقل المرافق والخدمات، أو اتخاذ أي إجراء مع صاحب الشأن يتعلق بالعقار إلا بعد تقديم السند الذي يحمل رقم الشهر أو القيد"، يتضمن شبهة عدم دستورية، بسبب التمييز بين العقارات السابق نقل ملكيتها في نفس التوقيت وبنفس سبل التسجيل أو غيرها. وأضافت المصادر القضائية أن القانون الجديد الذي أصدره السيسي، في سبتمبر/أيلول الماضي، يخالف مبادئ محكمة النقض التي أيدتها المحكمة الدستورية العليا، والتي تساوي بين البيع المسجل وغير المسجل فيما يتعلق بنقل المرافق والاستفادة من الحقوق الدستورية المقررة للمواطنين بتوصيل المياه والكهرباء ومصادر الطاقة. وأشارت المصادر إلى أن اشتراط صدور حكم نهائي بالتسجيل من المحكمة لإتمام عملية الشهر، ومد المرافق أو التعامل مع القرار، ينطوي في ذاته على شبهة عدم دستورية جسيمة، لإهداره حجية العقد المدني كواحد من أهم روافد كسب الملكية، بافصاح طرف عن تنازله عن حقوقه لمصلحة طرف آخر. وحذرت من أن هذه الإجراءات ستؤدي إلى صنع مشهد قانوني يشكك في سلامة الأموال التي تحصل عليها الدولة في الفترة الأولى لتطبيق القانون، إذا ما حُكم لاحقاً بعدم دستورية تلك الإجراءات، كما سيدفع المواطنين للتلاعب بالعقود والقيم المثبتة بغية التهرب من سداد قيم كبيرة.