قبل أيام قليلة كانت الأوضاع الاقتصادية تحتلّ صدارة اهتمام مواطني الإكوادور، غير أن فرار زعيم عصابة لوس تشونيروس خوسيه أدولفو ماسياس فيامار، الملقب بـ"فيتو"، من السجن، الأحد الماضي، دفع البلاد إلى حافة اضطرابات أمنية وصفها الرئيس دانيال نوبوا بـ"نزاع داخلي مسلّح". والاثنين الماضي، فرّ أيضاً أحد زعماء عصابة "لوبوس" فابريسيو كولون من سجنه، في خضمّ الفوضى الأمنية.
وأعادت عملية الفرار، مع ما رافقها من توترات أمنية، من قبيل اقتحام محطة تلفزيونية واحتجاز موظفيها ووقوع جرائم قتل ومسارعة الناس إلى التزام بيوتهم، ملف العصابات في الإكوادور إلى الواجهة، مع تنامي نفوذها في السنوات الأخيرة بفعل التحالفات التي عقدتها جماعات في الداخل مع عصابات مكسيكية وكولومبية.
وأعلن نوبوا، وهو أصغر رئيس في تاريخ الإكوادور، يبلغ من العمر 36 عاماً، الثلاثاء الماضي، في مرسوم وقّعه عن "وجود نزاع داخلي مسلّح"، وأمر بـ"تعبئة وتدخّل القوات المسلحة والشرطة الوطنية... لضمان السيادة ووحدة الأراضي الوطنية ضد الجريمة المنظمة والمنظمات الإرهابية".
وبعدما أعلن حال الطوارئ في كل أنحاء الإكوادور، الاثنين الماضي، أمر نوبوا بـ"تحييد" كل هذه المجموعات الإجرامية التي قدّم قائمة شاملة بأسمائها، مع التشديد على ضرورة تصرف القوات المسلحة "بما يتوافق مع احترام حقوق الإنسان". وتشمل حال الطوارئ التي أعلنها نوبوا، الذي انتُخب في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مع تعهد باستعادة الأمن في الإكوادور، كل أرجاء البلاد وستستمر 60 يوماً.
وبموجبها، يكون الجيش مخولاً بالحفاظ على النظام في الشوارع والسجون، مع فرض حظر تجول بين الساعة 11 ليلاً و5 صباحاً من كل يوم خلال هذه الفترة. وأكد لوبوا لراديو "كانيلا"، مساء الأربعاء، أن الإكوادور "في حالة حرب ولا يمكننا الاستسلام لهذه الجماعات الإرهابية".
22 عصابة في الإكوادور
ويبلغ عدد العصابات المعنية 22، وهي بالإضافة إلى لوس تشونيروس، كل من أغويلاس وأغويلاسكيلر وإيه كاي 47 وكاباييروس أوسكوروس وتشونكيلر وكوفيشيروس وكارتل دي لاس فياس وكوبانوس وفاتاليس وغانستر وكاتربيلر ولاغارتوس ولاتين كينغز ولوبوس ولوس بي 27 ولوس تيبورونيس ومافيا 18 ومافيا تريبول وباترونيس وآر 7 وتيغويرونيس. وتضمّ نحو 20 ألف عنصر.
وقّع الرئيس الإكوادوري مرسوماً جاء فيه أن البلاد أضحت في نزاع داخلي مسلح
والعصابات كانت بغالبيتها قبل سنوات قليلة عصابات شوارع، لكنّها تحوّلت إلى جهات عنفية فاعلة على صعيد الاتجار بالمخدرات، مع فروع حول العالم بعدما أصبحت الإكوادور محطة أساسية لتصدير الكوكايين، الذي يتم إنتاجه في البيرو وكولومبيا المجاورتين.
وفي حديث صحافي بعد اجتماع مع نوبوا، مساء الاثنين، أعلن قائد القيادة المشتركة للقوات المسلحة الإكوادورية خايمي فيلا أن "المنظمات الإرهابية باتت أهدافاً مشروعة"، وأنه لن تكون هناك "مفاوضات على الإطلاق" مع هذه الجماعات. وقال فيلا إنهم وجهوا ضربة "خطيرة" للمنظمات، وأضاف: "لقد نفذوا هجمات دموية وغير مسبوقة في تاريخ الأمة، ولن يمر شرهم الوحشي دون عقاب وسيتم إحباط محاولاتهم".
وأشار إلى أن نوبوا كلفهم بمهمة "واضحة" بموجب القانون رقم 111، مبيناً أنه "من الآن وصاعداً كل إرهابي هو هدف عسكري. لن نتراجع ولن نتفاوض، وسيكون هناك رد قوي على أعمال زعزعة الاستقرار والفوضى التي يريدون القيام بها في بلادنا". ووعد فيلا الشعب باستعادة الأمن في جميع أنحاء البلاد من خلال النضال "المشترك" للقوات المسلحة وقوات الشرطة.
وفي منشور لإدارة الشرطة الإكوادورية على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، أعلنت أنه "تم تعيين وحدات خاصة للقبض على الجناة، ولن تمر أي من هذه الحوادث من دون عقاب".
وانتشر فيديو مصوّر لأحد قادة الجيش في كيتو وهو يلقي خطاباً أمام عناصره جاء فيه: "لقد أدينا يمين القسم المقدس أمام علم التريكولور (ألوان علم الإكوادور الأصفر والأحمر والأزرق) المقدس، حين كنا صغاراً. أيها السادة، شعبنا يعاني، ولا يمكن لنا السماح بذلك. لا يمكن لنا السماح لشعبنا الإكوادوري أن يتعرّض للتدمير على يد من لا يريد الخير للوطن الأم. أيها السادة، سنكرّس أنفسنا وسنقاتل للدفاع عن هذه الأرض التي منحتنا الولادة، لأنه حين يعبثون مع الشعب الإكوادوري، فإنهم يعبثون مع القوات المسلحة المجيدة. تحيا الإكوادور".
ومع دخول النزاع المسلح يومه الرابع، سُجل مقتل 10 أشخاص على الأقل، بينهم عسكريون، بسكاكين سجناء ملثمين. وانتشرت مقاطع جديدة تظهر إعدام حارسَين على الأقل رمياً بالرصاص وشنقاً. وذكرت إدارة السجون في بيان أن 139 من طواقمها ما زالوا محتجزين رهائن في خمسة سجون في البلاد، من دون التعليق على فيديوهات الإعدام.
وفي إطار أعمال العنف، اقتحم مسلّحون، مساء الثلاثاء، موقع تصوير في محطة تلفزيون عامة في غواياكيل الساحلية، ثاني أهم مدن الإكوادور بعد العاصمة كيتو، واحتجزوا صحافيين وموظفين في القناة رهائن لفترة وجيزة. ووسط إطلاق النار، استمر البث المباشر لدقائق حتى تدخل ما يرجح أنهم عناصر أمن وبدأوا يصيحون "الشرطة. الشرطة". ولم يتمّ الإعلان عن وقوع إصابات في الحادث، فيما أوقفت الشرطة 13 مهاجماً.
غواياكيل... معقل العصابات
وتُعدّ غواياكيل معقل العصابات، حيث أفادت الشرطة بأن أعمال العنف أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص وإصابة ثلاثة آخرين. وقُتل أيضاً "شرطيان بشكل وحشي على أيدي مجرمين مسلحين" في مدينة نوبول المجاورة.
وتعطي الصور التي بُثَّت على شبكات التواصل الاجتماعي، ويصعب التحقق من صحّتها، فكرة عن أعمال العنف، مثل هجمات بزجاجات حارقة وإضرام النار في سيارات وإطلاق نار عشوائي على شرطيين ومشاهد هلع. وأغلقت فنادق ومطاعم في المدينة أبوابها، وكذلك في العاصمة كيتو، بينما أعلنت وزارة التربية والتعليم إغلاق كل مدارس البلاد، على وقع قيام الجيش الإكوادوري بدوريات في المناطق المتوترة.
وتبث القوات الأمنية، منذ الأحد الماضي، صوراً لعمليات التدخل التي تقوم بها في سجون مختلفة، تظهر مئات السجناء ممددين على الأرض بملابسهم الداخلية وأيديهم على رؤوسهم. وأقر مسؤول التواصل في الرئاسة روبرتو إيزورييتا، مساء الثلاثاء، بأن "هذه أيام صعبة جداً"، بعدما اتخذت الرئاسة "القرار المهم لمحاربة هذه التهديدات الإرهابية بشكل مباشر".
أعلن قائد الجيش الإكوادوري أن كل إرهابي هو هدف عسكري
بدورها، أعلنت البيرو المجاورة، مساء الثلاثاء، حال الطوارئ في كل المناطق على حدودها مع الإكوادور التي تمتد لأكثر من 1400 كيلومتر، وتعزيز عمليات المراقبة بإرسال شرطيين وجنود إضافيين. كما أعلنت بكين، أول من أمس الأربعاء، أنها علّقت النشاطات القنصلية لسفارتها في كيتو ونشاطات قنصليتها.
وأفادت السفارة الصينية في كيتو في بيان باللغة الإسبانية نشرته على موقع "ويتشات" للتواصل الاجتماعي، بأن موعد استئناف هذه النشاطات المعلّقة "سيعلن للجمهور في الوقت الملائم". وذكرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، أول من أمس الأربعاء، أن بكين تتابع الأوضاع عن كثب.
وقالت إن "وزارة الخارجية أصدرت تعليمات لسفارتها وقنصلياتها في الإكوادور بإطلاق آليات التعامل الطارئ للحماية القنصلية". وتابعت: "نقوم حالياً بالتدقيق في الوضع الأمني للمواطنين والمؤسسات الصينية في الإكوادور، ونصدر تحذيرات الإجراءات الوقائية الأمنية عبر قنوات مختلفة"، مؤكدة دعم بكين لجهود كيتو "لحفظ الاستقرار الاجتماعي وتأمل في أن تعيد الإكوادور قريباً الانتظام المعتاد".
وأعلنت الولايات المتحدة، مساء الثلاثاء، أنها "قلقة للغاية" إزاء أعمال العنف. وفي منشور على منصّة "إكس" (تويتر سابقاً)، أبدى المسؤول عن شؤون أميركا اللاتينية في وزارة الخارجية الأميركية براين نيكولز قلقه "البالغ إزاء أعمال العنف وعمليات الاختطاف التي وقعت في الإكوادور"، مضيفاً أن المسؤولين الأميركيين "سيظلّون على اتّصال وثيق" بنظرائهم الإكوادوريين للبحث في سبل معالجة الأزمة الراهنة.
بدوره، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إن الولايات المتحدة "تدين هذه الهجمات الوقحة". وأضاف: "نحن على اتصال وثيق مع الرئيس نوبوا والحكومة الإكوادورية ونحن على استعداد لتقديم المساعدة". وأعربت البرازيل وتشيلي وكولومبيا والبيرو عن دعمها للإكوادور، قائلة إنها ترفض العنف.
وتولى نوبوا منصبه في نوفمبر رافضاً "خطة فينيكس" للأمن، بما في ذلك إنشاء وحدة مخابرات جديدة مع تزويد قوات الأمن بأسلحة تكتيكية وإنشاء سجون جديدة مشددة الحراسة وتعزيز الأمن في الموانئ والمطارات. وقال إن ذلك سيكلف نحو 800 مليون دولار، على الرغم من أن الولايات المتحدة ستوفر أسلحة جديدة بقيمة 200 مليون دولار.
نموذج هايتي في الصراع مع العصابات
وليست الإكوادور وحدها التي تعاني من عنف العصابات في العالم حالياً، إذ إن هايتي باتت في وضع لا تُحسد عليه، بعد نموّ نفوذ العصابات وسيطرتها على مفاصل أساسية في العاصمة بور أو برنس، وهو ما دفع السلطات إلى طلب المعونة من الأمم المتحدة، التي أقرّت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بإرسال شرطة دولية بقيادة كينيا إلى هايتي لإعادة الاستقرار إليها، ومن المقرر أن يبدأ أفراد هذه الشرطة، المكوّنة من دول عدة، في الوصول إلى هايتي في وقت لم يُحدد من العام الحالي، رغم أنه سيكون "في وقتٍ مبكر من العام 2024"، وفقاً لتقرير موقع "ريليف ويب"، أكبر موقع للقضايا الإنسانية في العالم، الصادر في 5 يناير/ كانون الثاني الحالي.
أعلنت دول جوار الإكوادور دعمها لكيتو في حربها
غير أن الإكوادور تتمايز عن هايتي في محطات عدة. جغرافياً، فإن هايتي تتشارك جزيرة هيسانيولا مع جمهورية الدومينيكان في البحر الكاريبي، ولا يمكن للعصابات فيها التمدد براً إلا باتجاه الدومينيكان، التي عززت دفاعاتها الحدودية منعاً لأي توغل للعصابات.
كما أن عصابات هايتي محلية في غالبها، ولا ارتباط لها بعصابات خارجية. أما النظام الدولتي في هايتي فشبه منهار، مع سيطرة العصابات على نحو 80 في المائة من بور أو برنس، وتهاوي الاقتصاد وتتالي الكوارث الطبيعية، وأبرزها الزلازل، وانعدام الاستقرار السياسي منذ الاستقلال عن فرنسا في عام 1804.
في المقابل، فإن الجغرافيا الإكوادورية متاخمة لكولومبيا والبيرو، والدول الثلاث تتمتع بنظام سياسي ـ اقتصادي ـ أمني أمتن من هايتي. غير أن العصابات في الإكوادور أكثر احترافية من عصابات هايتي، ومرتبطة مع عصابات كولومبية ومكسيكية، تُشكّل بالأساس مشكلة لبوغوتا ومكسيكو، لكن حكومتي البلدين لا تزالان قادرتين على المواجهة، أو أقلّه الصمود في وجه العصابات، بمساعدة أميركية على وجه الخصوص.
غير أن اللافت في مسألة الإكوادور هو أن البلاد أمام مفترق طرق، إما يحولها إلى كولومبيا ثانية، كما حدث مع الأخيرة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وإما تمنع هذا التحوّل بسياسة أمنية جديدة، قد تدفع نوبوا إلى إقرار "خطة فينيكس" أو ما شابهها.
وهنا، يصبح التمويل أكثر سهولة، إذ إنه بسبب ضعف الاقتصاد الإكوادوري، لن تتردّد دول، مثل كولومبيا بالذات والبرازيل والبيرو، عن دعم الإكوادور كي لا يتمدد عنف العصابات إليها. الأهم هنا أن الخلافات الحدودية التاريخية بين البيرو والإكوادور تُصبح ثانوية قياساً على التحديات الأمنية الجديدة.
(العربي الجديد، الأناضول، فرانس برس، أسوشييتد برس، رويترز)