الخوف من الماضي كان على ما يبدو عاملاً حاسماً في إنقاذ رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الذي تمكّن من الفوز مجدداً في الانتخابات التشريعية المبكرة التي أُجريت في يونيو/حزيران الماضي، على الرغم من مواجهته انتقادات حادة على خلفية ما وصف بسوء إدارته لملف الحرب مع أذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ التي بدأت في سبتمبر/أيلول الماضي، ما أدى إلى خسارة أرمينيا أجزاء من الإقليم بعد التضحية بنحو خمسة آلاف جندي. كذلك فإن الاتهامات التي تلاحق منافسي باشينيان، بإغراق البلاد لعقود طويلة في دوامة فساد أضنت الشعب، لم تكن لتسمح لهم بالانتصار في مواجهة باشينيان، الذي يُعتبر قائد الثورة المخمليّة (عام 2018)، وتبعته الجماهير في تلك الثورة للتخلّص من استبداد السلطة الحاكمة حينها ورجالها الطامحين اليوم للعودة إلى صدارة المشهد.
أبرز منافسي باشينيان في هذه الانتخابات، كان الرئيس السابق روبرت كوتشاريان، المتهم بالمسؤولية عن مقتل 10 أشخاص خلال الاحتجاجات التي تلت انتخابات العام 2008، ولكن كتلة "هاياستان" (أرمينيا) التي يقودها لم تتمكّن من حصد أكثر من 21,04 في المائة من الأصوات، على الرغم من تسويقه أنّه "بطل" إقليم كاراباخ، وسبق أن ألحق الهزائم بالقوات الأذربيجانية، مقابل خطيئة باشينيان التي أدت إلى التفريط بأجزاء من الإقليم في الحرب الأخيرة.
كذلك فإن المنافسَين الآخرين لم يكونا أوفر حظاً، فأحدهما هو رئيس جهاز الأمن القومي السابق، أرتور فانيتسيان، الذي تمّ احتجازه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إثر اتهامه بالتورّط في محاولة انقلاب عسكري، قبل أن تقرر محكمة إطلاق سراحه. والآخر هو الرئيس السابق سيرج سركسيان، الذي أطاحت به الثورة المخملية. ولم تتمكن الكتلة التي تضم حزبيهما "لدي الشرف" من الفوز بأكثر من 5,23 في المائة من الأصوات، وهو رقم أقل من عتبة النجاح المطلوبة (7 في المائة)، لكنّه على الرغم من ذلك يمكّن الكتلة من دخول مجلس الأمة.
هكذا، فازت كتلة باشينيان (العقد المدني) بأغلبيّة الأصوات (53,92 في المائة). وفي تصريحاته الأولى بعد إعلان النتائج، وصف باشينيان فوزه بالثورة "الفولاذية"، مشدّداً على أن هذه "الثورة الثانية" لن تنتهي إلا بمحاسبة الذين سرقوا البلاد، الأمر الذي يمكن اعتباره رسالة واضحة تستهدف تصفية الحرس القديم سياسياً.
كان الحضور الأمني لافتاً بعد الانتخابات في رسالة من باشينيان لخصومه بسيطرته على الأوضاع
وفور إعلان نتائج الانتخابات في 20 يونيو/حزيران الماضي، كان الحضور الأمني لافتاً للغاية، وشهد محيط ميدان ساحة الجمهورية في العاصمة يريفان تواجداً مكثّفاً لقوات الأمن. ليست الرغبة بالحفاظ على النظام العام فقط هي ما دفع باتجاه هذا الاستعراض الأمني، بل كان في الأمر رسالة واضحة لخصوم باشينيان السياسيين، مفادها أنّه مسيطر تماماً على كافة مفاتيح البقاء في السلطة. هذه الرسالة تجسّدت أيضاً في تصريحاته التي قال فيها: "الشعب منحنا تفويضاً... ويجب أن نستخدمه على الفور".
لكن زعيم "العقد المدني" يدرك أن بقاءه في السلطة لا يمكن ضمانه فقط بخوف الشعب من عودة الحرس القديم. فالتناقضات الداخلية، التي مكّنت باشينيان من النجاة من محاولة الانقلاب المزعومة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي قادت إلى إعادة انتخابه على الرغم من خسارة كاراباخ، ليست كافية لتحصينه لفترة طويلة. والعامل الحاسم في لعبة البقاء هذه يتجاوز حدود أرمينيا إلى المطبخ السياسي في روسيا.
وكان باشينيان قد بدأ مسيرته السياسية، منذ أن كان برلمانياً معارضاً، بطرح ليبرالي مناهض لتبعيّة بلاده لموسكو. وحتى بعد توليه منصب رئيس الوزراء، واصل تصريحاته المنتقدة لسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متّهماً إياه بالتخلّي عن "هاياستان"، ما أثار حفيظة عدد من قادة الجيش الموالين لروسيا. حتى محاولة الانقلاب العسكري المزعومة في نوفمبر الماضي والتي جاءت بعد خسارة الحرب مع أذربيجان، لم تخلُ من رائحة التدخّل الروسي.
لكن باشينيان نجح في البقاء، وتحدّى التظاهرات المطالبة باستقالته ومحاولة الانقلاب المزعومة بالدعوة إلى انتخابات مبكرة فاز بها، بعد أن عزل العسكريين غير المضمون ولاؤهم، متهماً إياهم بالوقوف وراء تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة. وبالنسبة لخسارة كاراباخ فبإمكانه مواصلة إلقاء اللوم على دول أخرى، سواء كانت روسيا، أو الدول الغربية التي وقفت مكتوفة الأيدي على الرغم من خطاب باشينيان المغازل لها، أو بإمكانه التمسّك بما سبق أن قاله فعلاً لتبرير خسارة الحرب: "السؤال العسير الذي يطرح نفسه علينا هو لماذا منينا بالفشل في عام 2020. قد تكون هناك أسباب شتى عسكرية وسياسية واقتصادية... اليوم خطرت ببالي فكرة لا ينبغي أن تبدو لكم غريبة، مفادها أن الرب ربما أعرض عنا".
بدأ باشينيان استدارة نحو روسيا محاولاً خطب ود بوتين
وعلى الرغم من أن باشينيان يبدو مستقراً في منصبه، بل وبدأ بتوعّد خصومه، ولكنه لا يمكن ضمان هذا الوضع لفترة طويلة في حال ناكف موسكو، فمحاولة الانقلاب المزعومة في نوفمبر الماضي، والتظاهرات الشعبية التي طالبته بالاستقالة، قد لا تكون سوى رسائل، أو مقدّمات لما يمكن أن يحدث، خصوصاً في حال فشل مجدداً في محاربة الفساد الذي سبق أن تعهد باجتثاثه عند فوزه بانتخابات العام 2018. من هنا، يمكن قراءة استدارته الأخيرة عندما بدأ يحاول خطب ودّ بوتين، حين قال إن "أرمينيا ستعزز العلاقات مع المجموعات الإقليمية التي تقودها روسيا، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي".
أمّا بالنسبة للشعب الأرميني، فلا يزال في حالة يأس تجذّرت بعد فشل الثورة المخملية في تحقيق أهدافها حتى الآن، باستثناء وصول باشينيان إلى السلطة، فالفساد لا يزال منتشراً في البلاد، تضاف إليه خسارة الأراضي التي كانت أرمينيا قد سيطرت عليها في حرب التسعينيات مع جارتها اللدودة أذربيجان. حالة الإحباط العام هذه لم تمكّن من خلق ثورة مستمرّة، بما بات يثير مخاوف من وجود أرضية خصبة لإعادة خلق ديكتاتور جديد.
ديكتاتورية باشينيان المتوقعة، لها أكثر من مؤشر، فهو بدأ باستدارة لافتة نحو موسكو لضمان بقائه، والحرب التي يعتزم شنّها على خصومه السياسيين من المستبعد خسارتها، إلا في حال انقلابه على الروس مجدداً. أما محاربة الفساد فثبت أنّها بقيت مجرد شعارات، أو قد تتحوّل إلى ذريعة لتصفية حسابات سياسية، فيما الوعود الثورية فلم يتحقق منها ما يُذكر. هذه المعطيات تشير إلى أن البلاد ستكون في قبضة زعيم لا شريك له في السلطة.