في وقت تتحضر فيه محكمة العدل الدولية، غداً الجمعة، لإصدار قرارها بشأن إمكانية فرضها "تدابير احترازية" على إسرائيل، لحين البتّ بالدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال واتهمتها فيها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، كشفت صحيفة "نيويورك تايمز"، اليوم الخميس، أن تل أبيب، نزعت السرّية أخيراً عن 30 أمراً سرّياً أصدره القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون، خلال حرب غزة المتواصلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تدحض برأيهم تهمة الإبادة الموجهة إليها.
وبدا "دفاع" دولة الاحتلال في لاهاي مرتبكاً أمام قوة حجة جنوب أفريقيا، في الاتهام الأول من نوعه لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية في العالم.
وبحسب مدير مكتب "نيويورك تايمز" في القدس المحتلة، باتريك كينغسلي، فإن الأوامر السرّية التي سمحت حكومة الاحتلال بالكشف عنها، تقول إنها تدحض تهمة الإبادة، وبدل ذلك، تُظهر المجهود التي تبذله إسرائيل، لتقليص عدد الوفيات بين المدنيين في غزة، جرّاء عمليتها العسكرية.
وقالت "نيويورك تايمز" التي اطلعت بحسب مراسلها على نسخ من الوثائق، إن معظم دعوى جنوب أفريقيا ترتكز على تصريحات "نارية" لمسؤولين إسرائيليين، تقول بريتوريا إنها تشكّل أدلة لنية ارتكاب إبادة. ولفتت الصحيفة إلى أن جزءاً من دفاع إسرائيل هو إثبات أنه مهما قال المسؤولون الإسرائيليون أمام العامة، إلا أنه جرى نقضه من خلال القرارات التي اتخذتها حكومة الحرب الإسرائيلية، والقيادة العسكرية.
نيويورك تايمز: الملف الإسرائيلي مختار بعناية، ولا يتضمن معظم تعليمات حكومة نتنياهو خلال فترة الحرب
وقتلت إسرائيل في حربها على غزة، أكثر من 25 ألف غزّي، منذ 7 أكتوبر، أي واحدا من أصل كل مائة غزّي مقيم في القطاع، وذلك وفقاً لتعداد المسؤولين الصحيّين في غزة. كما أنها دفعت إلى نزوح حوالي مليوني فلسطيني في القطاع، وألحقت أضراراً بمعظم مبانيه، وفق الأمم المتحدة.
تهمة الإبادة تختبر النيّة
واتفاقية جنيف لمنع جريمة الإبادة الصادرة عام 1948، والتي تتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بخرقها، لا تعرّف الإبادة فقط بأنها قتل أعضاء مجموعة إثنية أو وطنية محدّدة، بل إنها تقول إن قتلهم يجب أن يكون تمّ بـ"قصد القضاء" على هذه المجموعة، أي أن كلّ شيء "يرتكز على القصد (النية)"، بحسب جانينا ديل، الأستاذة في جامعة أكسفورد، كما أوضحت لـ"نيويورك تايمز". ولذلك تركز جنوب أفريقيا، ليس فقط على ما فعلت إسرائيل، بل ما قاله قادتها ومسؤولوها. أما أوراق دفاع إسرائيل الـ400، فتتضمن ما تقول تل أبيب إنها أدلة بأنها سعت إلى "حرب قانونية" مع حركة "حماس"، وليس حملة تطهير أو إبادة.
وأوضحت الصحيفة الأميركية أن من بين الوثائق التي نزعت السرّية عنها، ملخصات مناقشات الحكومة الإسرائيلية منذ أواخر أكتوبر الماضي، والتي سمح فيها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بإرسال مساعدات ووقود ومياه إلى غزة. كما أمر الحكومة كيف بإمكان "لاعبين خارجيين" إنشاء مستشفيات ميدانية لمعالجة الغزّيين، كما بحث فكرة "المستشفى العائم". ووفق الوثائق، فإن أكثر تصريحات نتنياهو أهمية بهذا الشأن، صدرت عنه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وتقول وثيقة نقلاً عن مداولات اجتماع لحكومة الحرب الإسرائيلية، مؤرخ في 14 نوفمبر، بحسب محامي إسرائيل أمام محكمة العدل، ما مفاده أن "رئيس الحكومة يشدّد مرة أخرى على الحاجة لزيادة المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بشكل كبير". ويضيف نتنياهو بحسب الوثيقة خلال جلسة الحكومة: "أنصح بالاستجابة إيجابياً لطلب الولايات المتحدة تسهيل دخول الوقود" لغزة.
تعمية على أيام الحرب الأولى
وكشفت "نيويورك تايمز" عن فحوى عدد مما تقول إنها الوثائق السرّية لاجتماعات "كابينت" الحرب الإسرائيلي. ففي وثيقة أخرى مؤرخة في 18 نوفمبر الماضي، شدّد نتنياهو على "الأهمية القصوى" للسماح بمواصلة إدخال المساعدات الأساسية إلى غزة.
لكن بحسب "نيويورك تايمز" ومراسلها كينغلسي، فإن الملف (الإسرائيلي)، مختار بعناية، ولا يتضمن معظم تعليمات حكومة الحرب والجيش خلال فترة الحرب هذه، كما أن الوثائق المتاحة لا تتضمن الأوامر التي صدرت عن إسرائيل في أول 10 أيام من الحرب، حين حجبت تل أبيب المساعدات عن غزة، وحرمت القطاع من الكهرباء، وقطعت عنه المياه.
الوثائق قد تخدم إسرائيل في مرحلة لاحقة من الدعوى، أكثر منها بما يتعلق بالتدابير الاحترازية
وبعيداً عن مداولات حكومة الحرب، كشفت إسرائيل لمحكمة العدل أيضاً عن مجموعة من رسائل البريد الإلكترونية، بين القادة العسكريين وعمّال الإغاثة، تقول إنها تثبت جهودها لرفد غزة بالماء والدواء واللقاحات. وهي تعتبر بحسب حجتها، أنه لو كانت نيّتها الإبادة، لما تعاونت مع الأمم المتحدة لتوزيع المساعدات المنقذة للحياة في غزة. ومن بين هذه المساعدات مثلاً، بحسب إحدى الرسائل، برّادات تعمل بالطاقة الشمسية لحفظ نتائج التحليلات الطبية واللقاحات. وأكد مسؤول أممي للصحيفة أن الرسائل صحيحة.
وبناء على خبراء قانونيين دوليين، نقلت عنهم "نيويورك تايمز"، فإن "الأوامر السرّية للحكومة والرسائل الإلكترونية، توفر مضموناً مهماً، لكن المحكمة ستنظر إليها بدعوى تهمة الإبادة كجزء من صورة أوسع"، ما يعني أن على قضاة المحكمة (الـ17)، أن يقيّموا ما إذا كانت وثائق الملف "تحكي كل القصة عن خطط إسرائيل"، بحسب ويليام شاباس، أستاذ القانون الدولي، في جامعة ميدلسكس، في لندن، وهو مؤلف كتاب "الإبادة في القانون الدولي".
وبرأي شاباس أيضاً، فإن "الأوامر لتأمين المساعدات اللازمة لغزة يجب تقييمها لمواجهتها مع ما حصل فعلاً أو ما سمحت إسرائيل بحصوله فعلاً على الأرض"، علماً أن الأمم المتحدة مثلاً اتهمت إسرائيل أخيراً بأنها تمنع دخول المساعدات إلى غزة، وهو ما نفته تل أبيب. كما أن الأمم المتحدة حذّرت من أن المجاعة تخيّم على أهل غزة، وسط نقص حاد في الغذاء وانهيار النظام الصحي في القطاع. ولفتت الصحيفة أخيراً إلى أن هذه الوثائق قد تخدم إسرائيل في مرحلة لاحقة من الدعوى، أكثر منها بما يتعلق بـ"التدابير الاحترازية".