للمرة الثانية خلال عام، تفضّ مدينة برشلونة علاقة توأمة مع مدينة أخرى، بعدما أعلنت عمدتها، أدا كولاو، السياسية اليسارية التي صعدت إلى السلطة سريعًا بعقيدة حقوقية غير مهادنة، قطع العلاقات البلدية مع سان بطرسبرغ، عقب إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحرب على أوكرانيا في مثل هذا الشهر من العام المنصرم. ولأسباب شبيهة، تتعلق بحقوق الإنسان وانتهاك القانون الدولي، لكن تتعداها إلى سياسات "الأبارتهايد" تحديدًا، جاء إعلان كولاو هذه المرّة فضّ شراكة بلدية برشلونة مع تل أبيب.
لكن الإعلان كان مدروسًا وحذرًا، وبصيغة "تعليق" العلاقات لا قطعها، وبرسالة مباشرة إلى رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بينما لا يزال القرار بحاجة إلى صوت الأغلبية من أحزاب المجلس البلدي، في جلسة من المنتظر أن تعقد في 24 فبراير/شباط الحالي. رغم ذلك، يضاف هذا الإعلان إلى سيرة ممتدة لدى كولاو، وكذلك بلدية برشلونة أثناء عهدتها، في دعم القضية الفلسطينية بلغة تصل حدّ تبني حق العودة للاجئين، ووصم دولة الاحتلال بالفصل العنصري، وتأييد مقاطعتها.
الطريق إلى رئاسة البلدية
ولدت كولاو في برشلونة، في الشمال الشرقي من إسبانيا، عام 1974، في فترة كانت تشهد فيها البلاد تحوّلات جذرية مع أفول عهد الملكية والدخول في العهد الديمقراطي، الذي سيمكّن إقليم كتالونيا من الحكم الذاتي في 1979. ثمّ مع بلوغها المرحلة الجامعية، التي درست خلالها الفلسفة، ستكون حركة الوعي الديمقراطي وثقافة حقوق الإنسان قد تجذّرت في البلاد، وأفرزت جيلًا جديدًا ينزع نحو قيم التحرر والمساواة، ويجد في أحزاب اليسار ما يعبّر عن صوته في هيئات الحكم، المحليّة والمركزية.
يضاف هذا الإعلان إلى سيرة ممتدة لدى كولاو، وكذلك بلدية برشلونة أثناء عهدتها، في دعم القضية الفلسطينية بلغة تصل حدّ تبني حق العودة للاجئين، ووصم دولة الاحتلال بالفصل العنصري، وتأييد مقاطعتها
على هذا النهج، دأبت كولاو على النشاط الحقوقي التطوعي، حتى في الفترة التي كانت تواجه فيها تقلّبات على المستوى الوظيفي وتجهد في إيجاد فرصة عمل. لكن سيظلّ هذا النشاط محصورًا في سياقها الشخصي حتى عام 2009، حين ستقود حملة لمساندة الأشخاص المتضررين من الأزمة المالية العالمية، التي سيصل صداها أبعد من كتالونيا.
تكللت الحملة بتأسيس "منصة الأشخاص المتضررين من الرهن العقاري"، وبإنقاذ 50 ألف صاحب سكن من الإخلاء على مدار السنوات اللاحقة. ثم مع غروب آثار ما بعد الأزمة المالية، وتحديدًا في عام 2014، أسست كولاو حزب "Gyanyem Barcelona" (إلى النصر يا برشلونة"، قبل أن تختار له اسمًا آخر هو "Barcelona en Comú" (برشلونة المشترَكة)، الذي ستفوز باسمه في الانتخابات البلدية عام 2015، لتصبح أول امرأة تتولّى رئاسة مدينة برشلونة في تاريخها الحديث. ثم في عام 2019، ستنال ثقة الناخبين أيضًا لولاية جديدة.
فترة رئاسة عاصفة
مرّت كولاو من تحدّيات حرجة في فترتها الأولى، أبرزها الاستفتاء على انفصال الإقليم عام 2017، الذي أُتبع بقمع عنيف من الشرطة الإسبانية للمصوّتين والمتظاهرين على حد سواء، لتواجَه بأخرى لا تقلّ حرجًا مع دخول ولايتها الثانية؛ أوّلها التعامل مع تبعات جائحة كورونا.
لكن استفتاء الانفصال على الإقليم، الذي تعدّ برشلونة أكبر مقاطعاته، وضع كولاو أمام اختبار التمسّك بالثوابت الفكرية -وهي التي تحمل قناعات عالميّة عابرة للوطنيّة، وتصف نفسها بأنها "ملتزمة بالتقدم نحو مشروع أوروبي ديمقراطي واجتماعي ومحب للحرية"- وبين الرضوخ إلى المدّ الشعبي الهائل المؤيد للانفصال في حينها. أبدت كولاو في البداية، وهي سليلة جدّين قادمين من خارج إقليم كتالونيا، رأيًا رافضًا لتصويت الانفصال، ثمّ عدلت عن ذلك مع العدّ العكسي لبدئه بضغط من الجماعات المؤيّدة له؛ قبل أن تتخذ موقفًا وسطًا بين رفض الانفصال ذاته، ورفض التدخّل الأمني من سلطات مدريد.
على هذا النحو، تعاملت كولاو مع تلك التحديات بشيء من الحنكة السياسية والإتقان الإداري، حتّى تخطّتها بالعديد من الجوائز على المستوى المحلي والأوروبي والدولي، أبرزها كان من الأمم المتحدة على إدارتها لأزمة فيروس كورونا في برشلونة، وجائزة "سياسات الإسكان الجديرة" الأوروبية على خلفيّة مراعاتها شروط التحسين في الإنشاءات والمباني، والجائزة الدولية لـ"سياسات السياحة الجديرة" التي أشادت بإدارتها قطاع السياحة في المدينة.
بين دكتاتورية فرانكو والقضية الفلسطينية
تبدو القضية الفلسطينية، للوهلة الأولى، امتدادًا للثقافة الحقوقية المعولمة التي تتبنّاها كولاو، لكن اللافت أنها تراها أيضًا من واقع التجربة التاريخية لإقليم كتالونيا الذي شهد أقسى فصول الحكم العسكري للجنرال فرانكو. ففي مداخلة لها عام 2018، أثناء عرض كتاب "النكبة: 48 قصة عن الحياة والمقاومة في فلسطين" للباحث الفلسطيني-الإسباني صلاح جمال، ربطت عمدة برشلونة بين مظلمة الفلسطينيين اليومية تحت الاحتلال وتاريخ الاضطهاد الذي عرفته كتالونيا تحت نير الجنرال فرانكو، قائلة إن "حالة الفلسطينيين وما يتعرضون له من انتهاكات لحقوقهم الإنسانية تحاكي معاناة شعوب مثلنا؛ الأشياء ذاتها حدثت لأجدادنا وقد تحدث لنا مجددًّا".
تبدو القضية الفلسطينية، للوهلة الأولى، امتدادًا للثقافة الحقوقية المعولمة التي تتبنّاها كولاو، لكن اللافت أنها تراها أيضًا من واقع التجربة التاريخية لإقليم كتالونيا
وشرحت كولاو، في المداخلة ذاتها، أن "المدينة، وكذلك عموم كتالونيا، لديهما حساسية عالية دائمًا (حيال القضية الفلسطينية)، والتزام تاريخي خاص إزاء الشعب الفلسطيني"، متحدثة عن أن المجلس المحلّي في المدينة حافظ على تعاون تاريخي مع غزة -"رغم أن الإدارة السابقة تخلّت عنه"- وأنه يضطلع حاليًّا بمهمات إنسانية في القطاع، كما قدّم دعمه "لحركة تدين الاحتلال العسكري" الإسرائيلي، ربما في إشارة إلى حركة المقاطعة.
وبينما تقول كولاو إنها لا تملك "الحل السحري" للصراع القائم في المنطقة مع إسرائيل، فإن الخطوط العريضة التي تطالب بها، وكذلك بلدية برشلونة، هي "احترام حقوق الإنسان وإنفاذ قرارات الشرعية الدولية"، مشيرة على وجه الخصوص إلى قرارات الأمم المتحدة عن الاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية في مناطق ما بعد حرب 1967، والاستيطان. وهذا موقف متّسق مع مجمل الموقف الدولي المعلن، الذي تبدي عمدة برشلونة حرصها على التطابق معه في كل محفل، سوى أنّها تتعدى ذلك للإشارة بشكل مباشر إلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، الآخذ بالتلاشي في الخطاب الدولي الراهن.
حظر السلاح على إسرائيل
تحت إدارة كولاو، أصبحت برشلونة، في مايو/أيار 2018، أكبر مدينة تنادي علنًا بفرض حظر سلاح على إسرائيل، مطالبة الحكومة الإسرائيلية بضمان تنفيذ ذلك، على غرار الحظر الذي فرض دوليًّا على جنوب أفريقيا في زمن الفصل العنصري. لم يكن قرار كولاو وحدها، فقد أيّده في حينها 5 من سبعة أحزاب أعضاء في المجلس البلدي، ليصبح موقفًا رسميًّا نافذًا.
جاء القرار على خلفية قتل 110 "متظاهرين سلميين" على حدود غزة، كما وصفهم بيان بلدية برشلونة، الذي دعا دولة الاحتلال ومصر إلى منح الغزيين حرية في الحركة؛ كما أشّر على دعوات مماثلة لحظر السلاح صدرت في وقت سابق من ذلك العام، وتحديدًا دعوة مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، الصادرة في 23 مارس/آذار 2018، وكذا منظمة العفو الدولية، ومجلس برشلونة للتعاون.
ولم يفوّت المجلس البلدي أيضًا إدانة قرار الرئيس السابق، دونالد ترامب، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، كما دعا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي للامتثال للمعاهدة الدولية حول حقوق الأطفال، وضمان تحرير 400 طفل فلسطيني من السجون الإسرائيلية.
وعلى تعدّد المواقف والقرارات التي عبّرت عنها كولاو، وهي في المنصب، ظلّت تحرص في كلّ موقف على إرساء فاصل أخلاقي ما بين الاحتلال الإسرائيلي وسياساته، وبين اليهود كقوم وثفافة؛ وهذا ما أعادت تعيينه أيضًا في بيانها حول تعليق العلاقات مع إسرائيل، تأكيدًا على الموقف ضد "اللا سامية". لكن ذلك لم يمنع جماعات اللوبي الإسرائيلي في برشلونة من اختلاق تهمة بديلة: "لا سامية محنّكة".