شكّل أداء المقاومة الفلسطينية خلال تصدّيها للحرب الرابعة التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، صدمة للإسرائيليين، ولكثير من الفلسطينيين الذين كانوا توقّعوا حرباً من طرف واحد، يمتلك فيها الاحتلال اليد الطولى، نظراً لقوته العسكرية والتكنولوجية والمالية الأكبر في المنطقة، في مقابل مقاومة محاصرة مالياً وعسكرياً، ولا تملك إلاّ إرادتها وإمكانيات محدودة.
استخدمت المقاومة للمرة الأولى صواريخ بعيدة المدى
في الشكل، ظهرت المقاومة الفلسطينية هذه المرة بصورة أكثر تنظيماً وإعداداً وتسليحاً، فقد وسّعت من دائرة استهدافاتها، مقارنة مع ما خاضته خلال الحروب الثلاث السابقة التي شنّت ضد القطاع، وفي تصديها لعشرات الاعتداءات الإسرائيلية السابقة. ولجهة النوع والكمية، كان ما قدمته المقاومة هذه المرة لافتاً ومختلفاً، وأدى إلى إلحاق أذى أكبر بالإسرائيليين.
وبلغة الأرقام، أطلقت المقاومة خلال الحرب الثالثة على القطاع عام 2014، والتي استمرت 51 يوماً، نحو 5 آلاف صاروخ من إنتاجها المحلي، لكنّها في الـ11 يوماً الأخيرة فقط، أطلقت 4 آلاف صاروخ، غالبيتها في شكل رشقات، حملت كمتوسط عام مائة صاروخ في الرشقة الواحدة.
واستخدمت المقاومة للمرة الأولى، صواريخ بعيدة المدى، ضربت بها مطار رامون، جنوبي فلسطين المحتلة، ومطارات عسكرية إسرائيلية أخرى، وأدخلت طائرات مسّيرة انتحارية واستطلاعية للخدمة، موثقة كلّ أشكال عملها العسكري وتصديها للعدوان، بالفيديو، لتكذيب النفي الإسرائيلي المتكرر، والذي اعتاد عليه الفلسطينيون.
وجاء الأمر مختلفاً أيضاً في إدارة المقاومة للمعركة عسكرياً وإعلامياً. فقطاع غزة لم يستبح هذه المرة بلا ردّ، ولم يكتفِ المتحدثون العسكريون للمقاومة بإطلاق التهديدات، بل تبع الفعل كلّ تهديد، أو دفع الاحتلال لوقف تنفيذ تهديد له، كما حصل خلال الساعات الأخيرة من العدوان. فعندما أطلق المتحدث باسم "كتائب القسام" (الذراع العسكرية لـ"حماس")، أبو عبيدة، تهديده للاحتلال قبل ساعتين ونصف من دخول وقف النار حيّز التنفيذ، كان جيش الاحتلال قد أطلق إنذاراً وتهديداً بتدمير نحو 10 مبانٍ سكنية وشارعين في غزة، لكنّه لم ينفذه.
ويؤكد الخبير العسكري الفلسطيني، اللواء محمود العجرمي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ المقاومة أثبتت خلال هذه المعركة "امتلاكها السلاح والتذخير والتطوير بقدرات محلية، وبطرق لم يتم كشفها من قبل"، معتبراً أنّ "امتلاكها الخطط والتنسيق الدقيق سيمكنها في المرة المقبلة، من أنّ تبدأ من حيث انتهت". ووفق العجرمي، فإنّ تل أبيب ستشكل المحطة الأولى لضربات المقاومة في أيّ جولة قتال مقبلة. ويوضح أنّ لدى المقاومة "غرفة عمليات مشتركة كانت فعّالة في تنسيق وإدارة وتقاسم الوظائف المحددة والتعاطي مع أهداف الاحتلال، وكان لديها بنك أهداف يخدم حساباتها السياسية، ناقلة مستوى عملها من ردّ الفعل على الاعتداءات، إلى تفعيل مركّز للقضية الفلسطينية، وإعادة بوصلتها إلى مكانها".
ويلفت العجرمي إلى أنّ المقاومة "كانت قد نجحت خلال الحرب الثالثة مع الاحتلال في يوليو/تموز 2014، في إيقاع خسائر حقيقية لدى العدو ومستوطناته في مناطق غلاف غزة، وقد كرّرت ذلك خلال هذه الحرب، ما عرّض الاحتلال لإصابات وأضرار حقيقية خلال الـ11 يوماً من العدوان، وما أكد امتلاك المقاومة لبنك أهداف لضربها".
تركت الحرب أثراً عميقاً على المستوطنين وجنود الاحتلال
ويعتبر الخبير العسكري أنّ هذه الحرب تركت أثراً عميقاً على المستوطن والجندي الإسرائيلي، بعدما ظلّ جيش الاحتلال يتباهى بأنّه الأقوى بين جيوش المنطقة، ومن العشرة الأوائل في العالم، لكنّ ما فعلته المقاومة هزّ كثيراً معنوياته، بعدما أدارت هي توقيت خروج المستوطنين من ملاجئهم أو عودتهم إليها. ويذكّر العجرمي بأنّه "بعد الضربة الإسرائيلية العنيفة التي استخدمت فيها 200 طائرة حربية في اليوم السادس للعدوان، خرج رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، ليتحدث عن إنجازات وضرب منصات صواريخ وأنفاق، لكنّ المقاومة ردّت بعد دقائق فقط برشقات صاروخية كبيرة عددياً وواسعة لناحية أماكن الاستهداف".
وفي السياق ذاته، يشير الكاتب والمحلل السياسي تيسير محيسن، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "الشواهد العملية التي واكبناها خلال الجولة الأخيرة من التصدي للعدوان، أظهرت تبدل المقاومة وتطورها، ليس فقط في ترسانتها وأدواتها القتالية، بل في التنسيق الداخلي وتوزيع الأدوار عبر الغرفة المشتركة". ويرى محيسن أنّ "تكتيكات التعامل التي استخدمتها المقاومة، تؤكد أنّها كانت تتعامل مع حرب ومواجهة طويلة الأمد، وليس مع عملية صدّ سريع لعدوان محدود، وهو تكتيك بات يتلاءم مع الفهم الدقيق لفلسفة الحروب مع الاحتلال، الذي يعتمد على إبعاد ساحة الحرب عن مدنه".
واستطاعت المقاومة في غزة توسيع دائرة الاستهدافات تدريجياً، لتتناسب مع المستوى الذي يتغول فيه الاحتلال على الشعب الفلسطيني. وشكّل فرض المقاومة لاستراتيجية قصف تل أبيب مقابل أي عمارة سكنية، تطوراً نوعياً خفّف من استمرار قصف الاحتلال للمباني السكنية الكاملة، حيث بات يستهدف شققاً سكنية فقط، وفق محيسن. ويوضح الكاتب والمحلل السياسي أنّ تطور المقاومة انعكس مباشرة على تكتيكات الحرب، في عملية الإخفاء والتخفي والحفاظ على المخزون البشري لقوى المقاومة، رغم تمكن الاحتلال من الوصول إلى بعض قياداتها.
أما بالنسبة للحاضنة الشعبية للمقاومة، والتي توسعت في غزة والضفة والداخل المحتل، فيجزم محيسن بأنّ الشعب الفلسطيني "متعطش لانتصار"، بالإضافة إلى أنّ مستوى الضغط والتغول الإسرائيلي، وبرود الموقفين الدولي والإقليمي، جعل الفلسطينيين عفويين بفرحهم بتهديدات المقاومة، ومنتشين مع كلّ خروج لرشقاتها الصاروخية.