خلال الأيام الماضية، أثارت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان كثيراً من الجدل، تطور استقطاباً وتصعيداً بين بكين وواشنطن، وانتهى إلى مناورات عسكرية.
مع ذلك، فإن الملف الشائك للجزيرة، الذي لا يبدو الموقف الأميركي منه محسومًا، ليس إلا حلقة واحدة من تعقيدات كثيرة تحيط بالعلاقات الصينية الأميركية، ومسارا طويلا من التنافس في ميادين كثيرة، من التكنولوجيا إلى الطاقة والقدرات العسكرية على الأرض وفي الفضاء، وصولًا إلى التحالفات الإقليمية والدولية.
بالنسبة لواشنطن، فإن إدارة العلاقة المعقدة مع الصين تبدو، كما وصفها وزير الخارجية أنطوني بلينكن ذات مرة، "أكبر اختبار جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين". اختبار دخل إلى عمق الاستقطاب السياسي المحلي، وأصبح خلال العقود الماضية ملفًا تتحدد باسمه ملامح السياسات الخارجية، ويصعد أو يسقط بفعله سياسيون. من جهة أخرى، فإن العلاقة مع واشنطن لا تنفك تشكل جزءًا أساسيًا من الدعاية السياسية للحزب الشيوعي الحاكم في الصين، الذي تتراوح سياساته بين انفتاح اقتصادي معولم وسياسات ثقافية وقومية مركزية متشددة.
فما هي أبرز ساحات الصراع بين التنين والعم سام؟
المحيط الهادئ: "كواد" والغموض الاستراتيجي
كما يشير تقرير مطول نشرته صحيفة نيويورك تايمز نهاية العام الماضي، فإن السيطرة على المحيط الهادئ تحتل مكانة خاصة في العلاقات الصينية الأميركية المضطربة. حيث استخدمت الولايات المتحدة قوتها البحرية والجوية لفرض النظام في منطقة المحيط الهادئ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن الوضع، كما تشير الصحيفة، ليس مقبولًا بالنسبة للصين على المدى الطويل.
وعلى هذا النحو، عززت بكين وجودها العسكري في المنطقة، بينما سعت واشنطن، تحديدًا خلال إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، إلى توسيع تحالفاتها مع أستراليا واليابان والهند، وهي الدول الثلاث المنخرطة مع واشنطن في ما ما يسمى بتحالف كواد، وهو تحالف لمكافحة التمدد الصيني، بدأ يتوطد مؤخرًا بشكل أكبر بعد الصراعات والخلافات وحتى الاشتباكات الحدودية بين كل من أستراليا والهند من جهة، وبين بكين من جهة أخرى، خلال العامين الماضيين. من جهتها، فإن بكين تعتبر هذه التحالفات بمثابة استفزازات خطيرة ترمي إلى تأمين "الهيمنة" الأميركية.
عززت بكين وجودها العسكري في المحيط الهادئ بينما سعت واشنطن إلى توسيع تحالفاتها من خلال "كواد" مع أستراليا واليابان والهند
ضمن هذا الملف الإشكالي، تبرز قضية جزيرة تايوان التي يعتبرها الحزب الشيوعي أرضًا صينية، في ما يسمى بسياسة "الصين الواحدة". ورغم أن الولايات المتحدة رسميًا تعترف بأن تايوان هي أرض صينية، إلا أنها لم تنفك طوال السنوات الماضية تناور حول هذا الملف، فيما تم الاصطلاح عليه بشكل واسع بسياسة "الغموض الاستراتيجي".
هذا الغموض يتعلق بالأساس برد الفعل الأميركي، في حال قامت الإدارة الصينية الحالية بتنفيذ أحد أبرز وعودها بـ"التجديد العظيم للأمة الصينية"، وهو مشروع يتضمن وضع تايوان تحت السيطرة الصينية حتى لو احتاج الأمر القوة العسكرية.
في السياق، تأتي العلاقة المعقدة مع هونغ كونع، التي تتضارب المواقف الأميركية تجاهها بين فترة وأخرى، إذ تسعى الصين إلى فرضها كحديقة خلفية للاندماج مع السوق العالمي، فيما يصارع الديمقراطيون فيها من أجل الاستقلال عن القرار الصيني. في حين تتخوف الولايات المتحدة من أنها ليست مستقلة نهائيًا، وتغير بين وقت وآخر سياساتها الخارجية في ضوء هذا التخوف.
الحرب الجمركية: أميركا أولاً. والصين أيضاً
من بين أمور كثيرة ميزت السنوات الأربع من حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، برز عدم الوضوح في سياسات إدارته الخارجية تجاه كل من روسيا والصين. وفي حين غاب الاتساق، إلا أن إحدى الخطوات البارزة التي قام بها وكان لها أثر كبير هي بدء فرض رسوم جمركية على السلع الصينية منذ عام 2018، في خطوة تتعارض مع النهج الأميركي بفتح الحدود أمام السلع أو الاقتصاد الحر.
جاءت هذه الخطوة ضمن استراتيجية "أميركا أولا" التي انتهجتها إدارة ترامب، تحت مبرر أن فرض تعقيدات على الواردات الصينية سيمنع من ازدهار الصين عالميا على حساب العمال والمصالح الأميركية، كما أشارت وقتها الممثلة التجارية للولايات المتحدة كاثرين تاي.
اتهمت الحكومة الصينية إدارة ترامب بالانخراط في سياسات قومية حمائية، كما أن سياسة "أميركا أولاً" وفرض جمارك وقيود على الصادرات الصينية، انتهتا ببكين إلى اتخاذ قرارات شبيهة، بما في ذلك التقييد على الشركات الأميركية الكبرى الموجودة في البلاد، مع دعم أكثر للاستثمار المحلي.
رغم الخسائر الكبيرة التي تسبب بها هذا التصعيد، فقد كشف عن تبادل اقتصادي هائل بين البلدين، وهو ما جعل إدارة بايدن تتبع نمطًا من التوازن الاستراتيجي في ما يتعلق بهذا الملف، خاصة بالنظر إلى اعتماد بعض القطاعات في أسواق البلدين على الواردات من البلد الآخر.
حرب التكنولوجيا
خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، تصاعدت الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة، فاستهدفت شركات التكنولوجيا الأميركية في الصين، والشركات الصينية في الولايات المتحدة. فطردت، خلال السنوات الماضية، شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة خارج الصين، بعد الاستسلام لحقيقة أنها لم تعد قادرة على مجاراة سياسات الرقابة والتدخل الصينية. مع ذلك، فإن العديد من الشركات الأميركية لا تزال موجودة هناك، بما في ذلك عملاقا التكنولوجيا والسيارات تسلا وآبل.
وبحسب "نيويورك تايمز"، فإن بقاء هذه الشركات يثير المخاوف في واشنطن، بالنظر إلى السياسات الصارمة التي تتبعها بكين، والمخاوف من سرقة تكنولوجيا وأسرار هذه الشركات. في المقابل، قامت واشنطن بالتضييق على شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة، كما كانت الحال مع شركة هواوي، ما أدى إلى قطع شركة غوغل أي علاقة معها. كما فرضت وزارة التجارة الأميركية قيودًا على التعاون بينها وبين الشركات الأميركية، بحيث أصبح هذا التعاون مشروطًا بموافقة مسبقة من الحكومة.
هذا الوضع دفع الإدارة الصينية إلى حديث عن استقلال تكنولوجي. كما دفع الرئيس الصيني تشي جين بينغ إلى القول، إن الابتكار التكنولوجي أصبح ساحة الصراع الأساسية في اللعبة الاستراتيجية العالمية.
خلال ولاية ترامب تصاعدت الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة، فاستهدفت شركات التكنولوجيا الأميركية في الصين والصينية في الولايات المتحدة
فراغات إقليمية ومؤسسات موازية
تركت السياسات الخارجية لإداراتي باراك أوباما ودونالد ترامب فراغات إقليمية عديدة، إذ نظر الزعيمان لأسباب مختلفة إلى الوجود الأميركي الخارجي بارتياب. مع ذلك، فإن فترة ترامب واستراتيجيته المنغلقة، كانتا أكثر تأثيرًا، وعززتا هذا الفراغ حتى في ما يتعلق بمؤسسات دولية وأممية انسحبت منها الولايات المتحدة.
لعبت الولايات المتحدة دورًا أقل في ما يتعلق بالأزمات الدولية والإقليمية، وكانت مقارباتها غير واضحة، وبدا تدخلها محدودًا. وقد برز ذلك على نحو خاص خلال الفترة الأولى من انتشار جائحة فيروس كورونا، حيث لعبت دول مثل الصين وروسيا دورًا أكبر في ما يتعلق بتقديم مساعدات صحية، والاستثمار في ما تم الاصطلاح عليه لاحقًا بدبلوماسية اللقاح، أي الاستفادة من إنتاج وتوزيع اللقاحات من أجل مصالح سياسية ودبلوماسية.
خلال إدارتي أوباما وترامب لعبت الولايات المتحدة دورًا أقل في الأزمات الدولية والإقليمية وكانت مقارباتها غير واضحة وبدا تدخلها محدودًا.
أعلن مسؤولون أميركيون تخوفهم الاستراتيجي من الفراغات الإقليمية التي تركها الغياب الأميركي في ملفات عديدة، محذرين من أنها أصبحت ساحة أساسية للتنافس مع كل من روسيا والصين. كما تشير تقارير، فقد أنشأت الصين نسختها الخاصة من البنك الدولي وقدمت قروضًا لدول فقيرة، وسعت إلى تشكيل تحالفات بين دول تتشارك في سمعتها السيئة في ملف حقوق الإنسان، أو أخرى تعاني من التدخل الغربي.
فرضت هذه الدول نفسها من خلال مؤسسات تنافس مصداقية المؤسسات الدولية الراسخة، مثل منظمة الصحة العالمية، فكانت الصين قد وزعت جزءًا كبيرًا من لقاحاتها حول العالم، قبل أن تقر منظمة الصحة العالمية بها.
يشير تقرير لـ"بلومبيرغ" إلى أن التطورات الأخيرة تمنح الإدارة في بكين ثقة أكبر بهذا الخيار، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاضطرابات العديدة داخل الولايات المتحدة، وعدم الثقة المتزايد لدى حلفاء واشنطن، وهو ما اتضح عقب انسحابها العشوائي من أفغانستان، تاركة البلاد لهيمنة حركة طالبان.
الصراع على الفضاء
تطورت في السنوات الأخيرة نزعة نحو التسابق العسكري في الفضاء بين الصين والولايات المتحدة، تحديدًا تطوير مزايا هجومية ودفاعية للأقمار الصناعية، وكذلك تطوير أسلحة يمكنها التعامل مع الأقمار الصناعية نفسها وتحييدها أو تتخلص منها بالكامل.
كما يشير تقرير بعنوان "كيف أصبح الفضاء سباق القوى العظمى الجديد بين الولايات المتحدة والصين؟"، نشرته صحيفة نيويورك تايمز، فإن الصين استطاعت خلال السنوات الماضية تطوير أسلحة يمكنها أن تهدد الأساطيل المدارية التي تمنح الجيش الأميركي تفوقه التكنولوجي.
ويمكن للأسلحة المتقدمة التي تملكها الصين في قواعدها العسكرية إطلاق رؤوس حربية تحطم الأقمار الصناعية الأميركية. وحسب ما يوضح التقرير، فإن الهجمات الإلكترونية التي قد تشنها الصين يمكنها من الناحية النظرية أن تقطع الاتصال بين البنتاغون وأساطيل الأقمار الصناعية التي تتعقب تحركات بعض الأهداف الأميركية.
وفي حين ادعى ترامب أنه بدأ برنامجًا أميركيًا لمواجهة الخطر العسكري الفضائي للصين، تؤكد الصحيفة أن هذا الاهتمام تصاعد طوال السنوات الماضية، وهو نتيجة لخيارات استراتيجية في فترتي بوش وأوباما.
لم توضح إدارة بايدن ما تخطط للقيام به مع إرث ترامب في هذا المجال، إلا أن هذه المسألة تبقى، كما تقترح الصحيفة، إحدى أهم قضايا الأمن القومي التي تواجه الرئيس الأميركي الحالي، وبالتحديد في ما يتعلق بكيفية التعامل مع التهديد الصيني للقدرات العسكرية الأميركية في الفضاء، التي تعزز تفوق القوات الأميركية على الأرض.