لم تمضِ سوى أيام قليلة على توقيع الاتفاق الثلاثي بين السويد وفنلندا مع تركيا، من أجل انضمام البلدين الشماليين إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حتى انفجر الخلاف على تفسيره.
أنقرة تصرّ على تسلّم 73 شخصاً ممن تتهمهم بالانتماء إلى منظمات إرهابية، مستندة إلى تلك الاتفاقية، التي يرفض في المقابل ساسة السويد وفنلندا شمولها عدداً من الأشخاص، بذريعة أن التشريعات والقوانين المحلية لا تسمح لهم بذلك.
وأدى السجال إلى تهديد تركي مبطن بعودة "الفيتو"، من خلال تحذير الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعدم إرسال اتفاقية عضوية البلدين في الأطلسي إلى البرلمان التركي للموافقة عليها، كجزء من إجراءات الدول الـ30 في الحلف لاعتبار العضوية كاملة.
وتعتبر أنقرة أن السويد وفنلندا ملزمتان باحترام الوعود التي حصلت عليها في اتفاق الثلاثاء الماضي، قبل افتتاح قمة الأطلسي في مدريد.
وتلميح أردوغان بتجربة مقدونيا، وحاجتها لنحو 20 سنة للحصول على موافقة اليونان لعضوية الحلف، بعد تغيير اسمها إلى مقدونيا الشمالية، يثير مجدداً قلقاً في البلدين، وعلى مستوى أوروبا، خصوصاً أن القارة اعتبرت عضوية هلسنكي واستوكهولم انتصاراً على خطوط المواجهة مع روسيا.
ودخل التراشق حول مضامين وتفسيرات الاتفاق التركي مع الجانبين فصلاً أشبه بما كان سائداً قبل توقيعه. فوزير الخارجية الفنلندي بيكا هافيستو، اعتبر أن الحديث عن أعداد مطلوبين لترحيلهم إلى تركيا لا يتطابق والاتفاقية.
وفي الاتفاق الموقع نص يقول: "يجب على السويد وفنلندا معالجة طلبات تركيا لترحيل وتسليم المشتبه فيهم بالإرهاب". ولكن، استدعاء الأرقام، التي كانت تثار منذ سنوات، وتشمل شخصيات تركية، بينهم صحافيون وكتاب، ناقدون لسياسات أردوغان، وشخصيات كردية لا تخفي ولاءها لـ"حزب العمال الكردستاني"، عاد ليفجر الاتفاق.
السجال القانوني
وقد فجّر الاتفاق سجالاً داخلياً في كل من هلسنكي واستوكهولم، حيث اعتبر البعض في الأخيرة أن "السويد باعت مبادئها"، فيما عبّر آخرون، من سويديين وأكراد، عن صدمتهم من التنازلات.
وشدد وزير خارجية هلسنكي، هافيستو، للصحافة الفنلندية، أمس الجمعة، على أن "الاتفاق هو ما كتب على الورق فقط، ويمكنك بالطبع امتلاك وجهة مختلفة، لكنك وافقت على النصوص المكتوبة، ولم يتم الاتفاق على أي شيء آخر".
واعتبر أنه "حالياً لا يوجد شخص في فنلندا يستوفي متطلبات ترحيل أو تسليم إلى تركيا". وأضاف أن "الدولة (الفنلندية) ستمتثل لتشريعاتها الخاصة عندما يتعلق الأمر بمجرمين". ويطالب الأتراك بتغيير قوانين فنلندا لتسمح بتسليم مطلوبين، وهو ما رفضه هافيستو.
في المقابل، تزداد المخاوف في صفوف الأوساط الكردية، ليس فقط لناحية تسليم المطلوبين لدى أنقرة، بل لأن الاتفاق يعيد تأكيد تصنيف حزب "العمال الكردستاني" كمنظمة إرهابية بعد سنوات من شبه تسامح إسكندنافي وألماني مع أنشطته، وخصوصاً منذ تعاونه مع الغرب تحت علم واشنطن منذ 2014، تحت عنوان محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي في شمال شرق سورية.
وما لا ينفيه الطرفان الإسكندنافيان أن الاتفاقية بالفعل تنص على تشديد القوانين التي تمنع أنشطة "الكردستاني"، وفروعه السورية-الكردية، التي وجدت أبواب الدول الإسكندنافية مفتوحة، خصوصاً بعد انتقال بعض قادة أكراد سورية إلى استوكهولم.
ورغم ذلك، تبقى التشريعات في البلدين واضحة لجهة عدم تسليم مواطنيها.
وكرر وزير العدل والهجرة السويدي، مورغان يوهانسون، أمس واليوم السبت، أن قوانين السويد تمنع تسليم من يحمل الجنسية، أو حتى الجنسية المزدوجة.
ونقل التلفزيون السويدي عن أستاذ القانون الدولي في جامعة استوكهولم، ومستشار سابق للخارجية، أوفا برينغ، أنه لا يمكن بحال من الأحوال تسليم مواطنين سويديين، و"القضاء السويدي يتعامل بطريقة محددة وفقاً للتشريعات، بعيداً عما يقال من وعود سياسية".
التشريعات السويدية من عام 1957، والمتماشية مع نظيرتها الأوروبية، تمنع تسليم المواطنين للمحاكمة في بلد آخر، ويشمل ذلك مزدوجي الجنسية، ولكنه قانون لا يحمي من التسليم من يقيمون بصفة "مهاجرين/ لاجئين" إن وجدت المحاكم، وبالأخص المحكمة العليا، أرضية للاتهامات.
وتسمح القوانين بمحاكمات محلية لمتهمين بارتكاب أعمال إرهابية وجرائم خارج الحدود، ورفعت في سنوات ماضية شكاوى بحق بعض السوريين في السويد ممن اتهموا بالمشاركة في ارتكاب جرائم قبل انتقالهم إليها.
ويعتقد برينغ أنه لا يكفي أن تتذرع تركيا بمعاقبة البعض بأعمال إرهابية، "إذ يجب أيضاً تعريف الأعمال الإرهابية وفقاً للقانون السويدي، وذلك سيحمي معظم المطلوب تسليمهم، وإن كان ليس الجميع (ممن لا يحملون الجنسية السويدية على وجه الخصوص)".
وبانتظار اتجاهات السجالات الجديدة، التي تهمّ بالطبع الحلف الغربي عموماً في سياق المواجهة المحتدمة مع روسيا، يبدو الطرف التركي ممسكاً ببنود الاتفاق الموقع، وبما تتيحه الإجراءات التقنية لتصويت برلمانه على عضوية السويد وفنلندا في حلف الأطلسي.
وتتمسك السويد وفنلندا بما يتيحه الفصل بين السلطات، والتشريعات المحلية المتعلقة بحقوق الإنسان، وبعدم تسليم أشخاص لمجرد توجيه تهمة لهم في بلد آخر. وبانتظار مساومات، على الأقل لناحية تفسير الاتفاق الموقع، تعود الأمور إلى ما قبل الصورة المتفائلة التي رسمتها قمة مدريد أخيراً، وبالتالي تخفيف الضغوط التي شعرت بها موسكو خلال الأيام الماضية.