قبل يومين من البداية الرسمية لحملة القيادة في "حزب المحافظين" في يونيو/ حزيران 2019، شارك أوليفر دودن (الرئيس السابق لحزب المحافظين) مع ريشي سوناك (وزير المالية الحالي) وروبرت جينريك (نائب في البرلمان عن حزب المحافظين منذ عام 2014) في كتابة مقال بعنوان: المحافظون في خطر.. وحده بوريس جونسون قادر على إنقاذنا".
وكوفئ الرجال الثلاثة بمناصب حكومية رفيعة. بعد ثلاث سنوات بالضبط، كتب أوليفر دودن: "لا يمكننا الاستمرار في العمل كالمعتاد. يجب على أحد ما أن يتحمّل المسؤولية"، معلناً استقالته من منصبه، في دعوة للآخرين للتحرّك ضدّ رئيس الوزراء بوريس جونسون. حتى وإن أتت استقالته بعد الهزيمة الموجعة التي مني بها "حزب المحافظين" الجمعة في الانتخابات الفرعية، إلا أنه يصعب فصلها عن الاستقالات السابقة التي أعلن عنها مقرّبون من جونسون، أو عن الفضائح المتتالية التي لم يسبق لرئيس وزراء في بريطانيا أن تورّط بها.
ويبدو العنوان العريض الذي اختاره الرجال الثلاثة قبل ثلاث سنوات، مناسباً اليوم أيضاً. فجونسون الذي كان وحده قادراً على إنقاذ الحزب في الانتخابات العامة سنة 2019، هو الوحيد القادر اليوم على إنقاذه أيضاً لو رضخ للضغوطات الكبيرة وللنداءات بتنحّيه.
وفي الوقت الذي يتواجد فيه جونسون في كيغالي لحضور فعاليات قمة الكومنولث مبعداً عن نفسه الشبهات ورافضاً الاعتراف بمسؤوليته عن تلك الهزيمة، يبدو أن "مؤامرة" تحاك ضدّه على بعد أربعة آلاف ميل من رواندا. ويبدو جونسون مخطئاً في اعتقاده أن نجاته من تصويت حجب الثقة قبل أسابيع منحته وحدها حصانة لسنة كاملة على الأقل. منتقدوه من المحافظين وليس عددهم هيّناً ولا مواقعهم في الحزب هامشية، لا يوافقونه الرأي وبدأ تململهم من النتائج الكارثية لسياساته يظهر علناً ودون تردّد، في إشارة إلى محاولات حثيثة للحشد ضدّه والإيقاع به في أقرب فرصة مناسبة.
لم يعد الدفاع عنه مجدياً بالنسبة إليهم، كما أن حجم الأخطاء التي ارتكبها ويرتكبها كل يوم لم يعد يعنيه وحده، بل بات يهدّد حزبهم ويهدّد مواقعهم ومناصبهم ومستقبلهم السياسي هم أيضاً. فلو بقي في منصبه سيضيّع الحزب فرصة النجاة في الانتخابات العامة المقبلة والمقرّرة في العام 2023. إذ بيّنت نتائج الانتخابات الفرعية التي أعلن عنها أمس، أنه لم يعد كافياً بالنسبة لـ"حزب المحافظين" عدم توفّر بديل سياسي معارض.
"حزب العمال" الذي لا يمتلك أرضية صلبة ولم يقدّم خلال السنوات الماضية أي حلول بديلة لسياسات الحكومة الفاشلة، استطاع مع كل ذلك استعادة ويكفيلد التي صوتّت على استفتاء الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والتي انتزعها المحافظون في انتخابات العام 2019. بينما استطاع "الحزب الديمقراطي الليبرالي" انتزاع المقعد الذي شغله المحافظون لأكثر من 100 عام في نيفرتون وهونيتون، المنطقتين المحافظتين منذ عشرينيات القرن الماضي.
فراغ يكبر يوماً بعد يوم
الفراغ الذي أحدثته سياسات الحكومة بسبب رئيسها يكبر يوماً بعد يوم، بحيث أنه بات يتّسع لأي بديل آخر مهما كانت إمكانياته محدودة. ففي حين يمثّل جونسون اليوم المصالح البريطانية على الساحة الدولية عبر قمة الكومنولث في رواندا ومجموعة السبع في ألمانيا غداً وحلف شمال الأطلسي في إسبانيا بعد يومين، يعيش الناخبون البريطانيون أزمات ملحّة متعلقة بمصيرهم اليومي وبمستلزماتهم الحياتية البديهية. لا تعنيهم اليوم قضايا التجارة وتعليم الفتيات والأمن الغذائي العالمي والحرب المستمرة في أوكرانيا والبريكست والتصدّي للهجرة غير النظامية. فهم عندما صوّتوا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، صوّتوا لبريطانيا مستقلّة، قوية، آمنة.
لم يخسر جونسون البارحة مقعدين استراتيجيين فقط، بل خسر رئيس حزبه بعد أن كان قد خسر قبل ثلاثة أسابيع ثقة 41 بالمئة من أعضاء حزبه. خسر أيضاً دعم جزء مهم من دائرته المقرّبة والمؤثّرة. خسر مستشار الأخلاقيات مرّتين خلال عامين. خسر مصداقيته بعد أن رفض الاعتراف بخرقه للقانون ثم تراجع بعد أن أصدرت الشرطة غرامة بحقه. كذّب في بلد لا يحقّ للشرطة أن تطلب من المارّين في شوارعها أو المخالفين لقوانينها بطاقة هوية تثبت صحّة المعلومات الشخصية التي يقدّمونها. خرق القانون ثم بدّل بعض المواد لتتناسب مع خروقاته وتتيح له عدم التنحّي والاكتفاء بالاعتذار.
لم يخسر جونسون البارحة مقعدين استراتيجيين فقط، بل خسر رئيس حزبه بعد أن كان قد خسر قبل ثلاثة أسابيع ثقة 41 بالمئة من أعضاء حزبه
كما أن جونسون فقد أوراقه الخارجية التي كان يرميها على الطاولة في الأزمات كورقة الغزو الروسي على أوكرانيا. وإن أتت زيارته الأولى إلى كييف في أعقاب الغرامة التي حصل عليها من الشرطة، فإن زيارته الثانية جاءت بعد يوم واحد من نجاته من تصويت حجب الثقة. إلا أنها أتت باهتة ومفتعلة ولم تؤدّ أي غرض سوى سخرية الكثير من الوسائل الإعلامية المحلية العريقة.
نجا جونسون من فضائح "حفلات داونينغ ستريت" ومن تحقيقات الشرطة ومن صفة "الكاذب" التي أطلقتها معظم الصحف البريطانية عليه، ومن معظم استطلاعات الرأي. نجا من تقرير كبيرة موظّفي الخدمة المدنية سو غراي على الرغم من الإدانة المخجلة التي يحملها التقرير بما يقدّمه من معلومات دقيقة عن مسار الحفلات التي أقيمت في مقرّ إقامته والخروقات القانونية والسلوكية التي ارتكبها هو وموظّفوه. نجا قبلها أيضاً من سياسته "المتهوّرة" في التصدّي للوباء وتفضيله الاقتصاد على أرواح الملايين. ثم نجا من بداية الأزمة المعيشية وارتفاع الأسعار على اعتبار أنها أزمة عالمية يعاني منها الجميع على أثر تداعيات الجائحة والإغلاق. نجا أخيراً من تصويت حجب الثقة قبل أسابيع، إلا أن نجاته كانت "مهينة" نوعاً حيث فقد 41 بالمئة من أصوات حزبه.
حتى هذه اللحظة، لا يبدو أن جونسون فقد كل فرص نجاته بعد هزيمة الحزب في الانتخابات الفرعية البارحة. فبعد الخسارة المدوّية التي وصل صداها إلى كيغالي بدلاً من طائرة ترحيل اللاجئين، التي كان من المفترض أن تقلع قبل أسبوعين، سارع جونسون للتواصل مع كبار الوزراء في حكومته ليطمئن من دعمهم. حصل على دعم أكيد من وزراء المالية ريشي سوناك والداخلية بريتي باتيل والخارجية ليز تروس والثقافة نادين دوريس والصحة ساجد جافيد.
لكن في المقابل، استقال دودن رئيس الحزب من منصبه وطالب النائبان البرلمانيان عن "حزب المحافظين" أندرو بريدجن وستيف بيكر بتنحّي جونسون معلنين نيّتهما الترشّح لمناصب عليا في لجنة 1922 في الحزب التي يرأسها غراهام برادي.
فرصة قد تكون ذهبية لإطاحة جونسون
ستيف بيكر، وزير البريكست السابق معروف بتنظيمه ثورات حاسمة وانقلابات ضد قادة "حزب المحافظين" المتعاقبين. قد تكون هذه هي الفرصة الذهبية بالنسبة لمعارضي جونسون ومنتقديه للإيقاع به بعد أن فشلوا في التصويت على حجب الثقة. ومن المتوقّع مشاركة متمرّدين آخرين في الاقتراع المقرّر إجراؤه قبل عطلة البرلمان الصيفية في 21 يوليو/ تموز، وسيتمّ فيه انتخاب الأعضاء التنفيذيين للجنة 1922. أغلبية بسيطة في اللجنة التنفيذية ستتمكّن من تغيير قواعد الحزب وفرض تصويت ثانٍ على حجب الثقة.
وشهد الحزب مثل هذا السيناريو في العام 2019 عندما نجت تيريزا ماي في التصويت على حجب الثقة بنسبة أكبر بقليل من النسبة التي حصل عليها جونسون، إلا أنها استقالت بعد أقل من ستة أشهر. إذ إن اللجنة التنفيذية أجرت حينها اقتراعاً سرياً خاصاً بها على تغيير قواعد الحزب وإجراء تصويت جديد قبل مرور عام على التصويت الأول. تم حفظ الأصوات في مغلّفات بريدية مغلقة، وقبل فتحها قام رئيس اللجنة غراهام برادي بإبلاغ ماي أنه سيفتح المغلّفات في حال رفضت الاستقالة، فاستقالت.
في انتظار أن يحصل منتقدو جونسون على أغلبية في الجهاز التنفيذي للجنة 1922 في محاولة لتغيير قواعد الحزب والسماح بتصويت جديد على الثقة، ما تزال الأصوات تعلو داخل الحزب بضرورة تنحّي جونسون بعد أن "أفسد" سمعة الحزب على حدّ وصف عضو البرلمان المخضرم عن "حزب المحافظين" روجر جيل.
تبلورت لدى الكثير من "المحافظين" إن لم نقل معظمهم فكرة أن مصيرهم مرتبط اليوم بتنحّي جونسون وبقدوم قيادة جديدة، حتى وإن أصرّ رئيس الوزراء على عكس ذلك عندما صرّح من كيغالي أن "الطريق إلى الأمام في السياسة البريطانية لا يمضي عبر التركيز على قضايا شخصية كقضيته". لن يعود جونسون قبل مساء الخميس القادم، ما يتيح وقتاً كافياً لحشد الأصوات ضدّه في انتظار تحقيق لجنة الامتيازات أيضاً، والذي بات صعباً تخيّل أن ينجو جونسون قبل تاريخ نشره.