شكّلت الـ24 ساعة الماضية "حرب أعصاب" بامتياز بين موسكو وواشنطن. وقد تعاملت معها إدارة جو بايدن من موقع الدفاع ورد الفعل، ولذلك بدا أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما زال يمسك بخيوط حرب الأعصاب الجارية بين الطرفين. ليس ذلك فحسب، بل لاحت في السياق علامات خلخلة في التحالف الأميركي الأوروبي، استدعت تدخل البيت الأبيض لضبط وحدة الصف.
وكان الاعتقاد أنّ الهدوء سيسود مطلع الأسبوع الحالي، لحين تسلّم الردود الخطية، التي جرى الاتفاق على تبادلها في لقاء الوزيرين أنتوني بلينكن وسيرغي لافروف، يوم الجمعة الماضي في جنيف؛ لكن التراشق بالتصريحات وإقدام واشنطن على خطوات مفاجئة أوحيا بأنّ الردود الخطية المتوقعة ربما تكون قد تجاوزتها التطورات المتسارعة.
وتمثل ذلك في إيعاز الخارجية الأميركية، الأحد، لقسم من الدبلوماسيين "غير الضروريين" في سفارتها في أوكرانيا بالمغادرة مع عائلاتهم لأسباب أمنية. كما أصدرت تحذيراً للمواطنين الأميركيين بعدم السفر إلى هناك. وكان لافتاً في هذه الخطوة أنّ الحلفاء الأوروبيين نأوا بأنفسهم عن مثلها. الأمر الذي أشار إلى وجود تباين بين طرفي الأطلسي في تقييم الوضع.
وصبّ في هذا السياق أنّ الرئيس بايدن سارع، بعد ظهر الإثنين، إلى عقد قمة افتراضية مع ثماني قيادات أوروبية لمدة ساعة وعشرين دقيقة، صدر على إثرها بيان من البيت الأبيض أعرب فيه الرئيس عن ارتياحه للاجتماع "الجيد جداً جداً جداً"، والذي تحقق فيه "الإجماع التام مع الأوروبيين". علماً بأنّ الإدارة دأبت على التأكيد منذ البداية أنّ هذا الإجماع متوفر برغم ما هو معروف عن عدم التطابق بين واشنطن والأوروبيين، ولا سيما مع برلين وباريس، في شأن التعاطي مع موسكو.
وقد حرصت الجهات المعنية في الإدارة الأميركية على تسويغ هذه الخطوات وغيرها، ووضعها في إطار موقف متماسك يبعد التساؤلات وعلامات الاستفهام التي ما زالت تحيط بمقاربات البيت الأبيض وتوجهاته. فحتى اللحظة لا أجوبة عن أسئلة مثل: هل بوتين يقوم بعملية خداع وابتزاز؟ هل هو فعلاً ينوي الاجتياح؟ وإذا لا، فهل هو يعدّ لانقلاب في كييف ينتهي بتسلم أنصاره السلطة ليسارعوا إلى طلب المساعدة الروسية الواقفة على الأبواب؟ وأكثر من ذلك، هل مشروع بوتين "أبعد من أوكرانيا وعضويتها في حلف الناتو ويهدف بالنهاية إلى إخراج أميركا من أوروبا؟"، كما ترى فييونا هيل الخبيرة في الشؤون الروسية.
التكهنات كثيرة، ويزيدها ضبابية أنّ الكرملين يعتمد ازدواجية متوازية في تنفيذ خطته. فمن جهة تعمل ماكينته الإعلامية - الدبلوماسية على نفي وجود نية لعمل عسكري ضد أوكرانيا، مع السعي للعثور على مخرج سياسي؛ ومن جهة ثانية يواصل حشد قواته وتعزيزها حول أوكرانيا وفي بيلاروسيا الحليفة له.
بوتين يملك حساباته، ولا بد أنه يدرك كلفة مغامرة من هذا النوع، وبالتالي من الصعب ترجيح نية الحرب لديه. في المقابل الرجل يرى أنّ اللحظة مواتية لتوسيع فلك نفوذ روسيا في المحيط، كضمان أمني وتعويض قدر الإمكان عن "إهانة " الانهيار السوفييتي.
وقد أدت القراءات المتباينة إلى مقاربات مختلفة، إذ عقدت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، الإثنين، مؤتمراً صحافياً في نادي الصحافة الأجنبية بنيويورك، ألمحت فيه إلى "إمكانية" الاستعانة بقوات دولية، ولو أنّ هذا الخيار "لم يتحدث بشأنه أحد حتى الآن في مجلس الأمن" كما قالت.
أما البنتاغون فقد كشف في مؤتمر صحافي لاحق أنّ وزارة الدفاع وضعت قوة من "8500 جندي في حال تأهب كامل لتعزيز الوضع الأمني في أوروبا الشرقية"، في مهمة يبدو هدفها شد عصب الحلفاء المتخوفين من أن تصيبهم شظايا القنبلة الأوكرانية. ومن ناحية ثانية تأتي من باب "التخطيط للطوارئ" على حد تعبير الناطقة في البيت الأبيض، جين ساكي، والتحوّط من احتمال وقوع مفاجأة خارج الحسابات.
وقد أثارت هذه الخطوات والتدابير الطارئة القلق يوم الإثنين من احتمال وقوع تطورات عسكرية في أوروبا كبيرة بآثارها وتداعياتها المحلية والدولية. وانعكس بشكل بارز في تعاملات أسواق المال، حيث هبطت البورصة 1100 نقطة بساعات قليلة، لتعود بعد الظهر إلى تصحيح وضعها وإقفال تعاملاتها بربح يعادل المائة نقطة. وقد ساد الاعتقاد أنّ المعلومات الأوروبية الأوكرانية أربكت الأسواق في البداية، قبل أن تنجلي الصورة وتعود الأمور إلى الاستقرار. وربما كان ذلك من دواعي قمة بايدن مع الأوروبيين.
إنّ أكثر ما يؤرق واشنطن أنّ الرئيس الروسي لم يكشف بعد عن كل أوراقه، مع الخشية من أنّ شروطه الخطية التي لم يتزحزح عنها قيد أنملة قد تكون مدخلاً لشروط أخرى متناسلة عنها تتعدى الساحة الأوكرانية. فالامتحان كبير أمام الإدارة الأميركية، وصدقيتها الدولية مرهونة إلى حدّ بعيد بنتائجه.