بعدما تأجج الغضب العالمي بسبب المشاهد الملتقطة في مدينة بوتشا الأوكرانية، والتي أظهرت عشرات الجثث بعد انسحاب القوات الروسية منها، انفتح الحديث في واشنطن عن ضرورة محاكمة الكرملين بتهمة ارتكاب "جريمة حرب".
هول المشهد معطوفاً على الأوصاف التي أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن على نظيره الروسي فلاديمير بوتين (مجرم حرب وقاتل وجزار) صب الزيت على نار المطالبة بهذا الخيار علّه يكون الوسيلة الفعالة لتدفيع موسكو، ولو بعد حين، ثمن حرب "جائرة" لا يعرف أحد متى وكيف ستنتهي.
الأمم المتحدة معطّل دورها بحق النقض الروسي (الفيتو) في مجلس الأمن الذي لا يقوى أحد على تغيير نظامه وقواعد عمله سوى الجمعية العمومية التي لا تبدو أنها في هذا الوارد الآن. العقوبات لم تؤت ثمارها بعد. هذا لو أثمرت. والمفاوضات الأوكرانية الروسية تراوح مكانها رغم بعض التلميحات الواعدة التي صدرت عن الجانبين ربما لتبرير مواصلة الحوار بغرض شراء الوقت وبانتظار نضوج ظروف تحويله إلى عملية جدية.
لكن طرح خيار المحاكمة أثار الكثير من الجدل حول مرجعياته ومسالكه القانونية الشائكة وشروطه، وفي النهاية حول خلاصته وترجمة قرار المحاكمة في حال توصلت وبعد مدة طويلة إلى تثبيت التهمة وتجريم المتهم.
الموضوع ما زال حتى الآن مسألة مختلفاً حولها داخل الإدارة الأميركية، وأيضاً بين واشنطن والحلفاء الأوروبيين، سواء لناحية تصنيف القضية أو لتحديد الجهة الصالحة والأفضل للبتّ بشأنها. الرئيس بايدن يقول إن ما جرى في بوتشا "جريمة حرب"، أما مستشاره في الأمن القومي، جيك سوليفان، فيدعو إلى التريّث على أساس أنه لم يرَ حتى الآن "أدلة كافية" تضع ما حصل في بوتشا "بمستوى الإبادة".
وهو التوصيف الذي اعتمده الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أمس الثلاثاء في مخاطبته لمجلس الأمن. الإبادة، بحسب القانون الدولي، هي "العمل الذي ترتكبه جهة بنية تدمير كلي أو جزئي لجماعة إثنية أو قومية أو دينية". استهداف المدنيين وقتلهم "جريمة حرب" حسب مؤتمر جنيف وبروتوكول جنيف. وهناك حسب بعض الأكاديميين المختصين في هذا الحقل "جريمة القيادة " حينما يقرر قائد أو زعيم ما شنّ حرب "لا مبرر أو مشروعية لها".
هذا التنوع الجرمي الفاصل بين تصنيفاته خيط رفيع ومتداخل أحياناً يطرح مسالة الجهة القضائية المختصة بالنظر في ما وقع ببوتشا. هل من الأنسب تشكيل محكمة خاصة على غرار محكمة نورينبرغ التي تولت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية محاكمة النظام النازي الألماني بجرائم حرب؟ أم اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية القائمة والتي سبق لها أن نظرت في جرائم من هذا النوع؟
الخيار لم يحسم بعد حسب سوليفان. "علينا التشاور مع حلفائنا وشركائنا. فهناك المحكمة الدولية كما هناك نماذج أخرى" كما جاء على لسانه. وبدا من كلامه أن إدارة بايدن تفضل البديل عن هذه المحكمة. والاعتقاد أن هذا الموضوع مع حزمة العقوبات الجديدة التي قد تتناول النفط والغاز الروسيين، حملهما وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي غادر إلى بروكسيل للتباحث بشأنهما مع الأوروبيين.
فالمحكمة الجنائية الدولية لواشنطن معها قصة طويلة وغير ودّية. إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وقّعت على تأسيسها بعد التصويت عليها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1998. لكن الرئيس جورج بوش الابن سحب التوقيع في 2002 بذريعة أن المحكمة قد تنظر في قضايا ضد جنود أميركيين بتهمة ارتكاب جرائم حرب أثناء قيامهم بمهماتهم العسكرية وأن ذلك قد يشكل مسّاً بالسيادة الأميركية.
ثم جاء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ليوقف أي تعاون مع المحكمة وليتوعّد بالتصدي لأي محاولة تقوم بها لملاحقة مواطنين أميركيين. وفي 2019 فرض عقوبات على الأفراد الذين تربطهم علاقة بالمحكمة. لكن الرئيس بايدن شطبها بعد توليه مقاليد الحكم بالبيت الأبيض.
ويعود جزء مهم من نفور واشنطن من هذه المحكمة إلى أنها قبلت مرة النظر في دعاوى فلسطينية ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب في حروبها على غزة. أقامت الدنيا ولم تقعدها آنذاك على المحكمة. لكنها الآن ترى فيها الجهة الصالحة التي يمكن التعويل عليها في القضية ضد روسيا، لا سيما وأنه سبق لها أن باشرت تحقيقاتها في الحرب الروسية على أوكرانيا واستهداف المدنيين. فهذه المحكمة كغيرها من المؤسسات الدولية تتعامل معها واشنطن باستنساب.
في كل الأحوال، وسواء رسا اختيار إدارة بايدن على المحكمة الجنائية الدولية أو على تشكيل محكمة خاصة للنظر في الوقائع ببوتشا، يبقى من الصعب عبور مثل هذا الممر القضائي المعقد خصوصاً عملية إثبات الجرم، عدا عن التحديات الإجرائية مثل مسألة الإحضار الشخصي للمتهم (بوتين في هذه الحالة) وغيرها المتعلقة بالآليات التي لا تتوفر بالقدر المطلوب في المحكمة الجنائية.