مع استمرار الاغتيالات والاعتداءات في العراق التي تستهدف الناشطين العراقيين، ووسط زيادة شعور هؤلاء بأن الحكومة برئاسة مصطفى الكاظمي غير قادرة على مواجهة قتلة المحتجين والمليشيات، يُنظّم ناشطون عراقيون، اليوم الأحد، في العاصمة بغداد ومدن عدة جنوبي البلاد، وفي أكثر من 10 عواصم غربية، مسيرة هي الأولى من نوعها تطالب بإنهاء الإفلات من العقاب وتفعيل القانون والقضاء في البلاد، لمحاكمة المتورطين بالجرائم والانتهاكات المختلفة وجرائم الفساد المالي. وحظيت المسيرة المقررة اليوم بدعم وتأييد حقوقي وشعبي كبير، ومن المتوقع أن يرفع خلالها الناشطون صور العشرات من المسؤولين والسياسيين وزعماء الفصائل المسلحة المتهمين بارتكاب هذه الجرائم، وسط تحضيرات لتسليم جهات أممية ودولية مذكرة تطالب بالوقوف مع الشعب العراقي.
بعد ساعات من الإعلان عن القبض على قاتل الهاشمي، شهدت الناصرية محاولة اغتيال ناشط
وتأتي هذه المسيرات بعد إعلان الكاظمي، أول من أمس الجمعة، القبض على المتورطين بقتل الباحث والخبير في الشأن العراقي، هشام الهاشمي (في 6 يوليو/تموز 2020)، واعتقال متورطين بقتل الصحافي والناشط المدني أحمد عبد الصمد في مدينة البصرة مطلع العام الماضي. وقال الكاظمي في تغريدة على "تويتر": "وعدنا بالقبض على قتلة هشام الهاشمي وأوفينا الوعد، وقبل ذلك وضعنا فرق الموت وقتلة أحمد عبد الصمد أمام العدالة، وقبضت قواتنا على المئات من المجرمين المتورطين بدم الأبرياء". وأضاف: "لا نعمل للإعلانات الرخيصة ولا نزايد، بل نقوم بواجبنا ما استطعنا لخدمة شعبنا وإحقاق الحق".
وبث التلفزيون الرسمي العراقي، تسجيلاً تضمّن اعترافات المتهم بقتل الهاشمي، عرّف عن نفسه باسم أحمد الكناني، وهو ملازم أول في وزارة الداخلية منذ عام 2007، وينتمي لجهة وصفها بـ"الخارجة عن القانون"، مؤكداً أنهم تجمّعوا في منطقة البو عيثة (جنوبي بغداد) بسيارتين لتنفيذ عملية الاغتيال، وقام بإطلاق النار على الهاشمي من مسدس حكومي بأربع رصاصات. وتحدث القاتل عن وجود أشخاص آخرين معه ما زالوا طلقاء لغاية الآن. ولم يعرض التلفزيون الجزء المتعلق بالجهة التي ينتمي إليها القاتل، لكن منطقة البو عيثة التي انطلق منها القتلة خاضعة لنفوذ مليشيات "كتائب حزب الله" و"كتائب سيد الشهداء". في المقابل، ذكرت وسائل إعلام محلية عراقية، أن القاتل يعمل لصالح "كتائب حزب الله"، وجرى الاتفاق سياسياً على عدم نشر الجزء المتعلق باعترافاته بالجهة التي طلبت منه قتل الهاشمي، تجنباً لأي أزمة في هذا الملف.
لكن هذا التطور لا يعيد ثقة العراقيين بقدرة الحكومة على حماية الناشطين من الاغتيالات، خصوصاً أنه بعد ساعات من الإعلان عن القبض على قاتل الهاشمي، شهدت مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار) جنوبي البلاد، ليل الجمعة - السبت، محاولة اغتيال الناشط في تظاهرات الناصرية أبو الياس السعدون. وقالت مصادر محلية في ذي قار، لـ"العربي الجديد"، إن عدداً من الأشخاص هاجموا السعدون بالسكاكين في منطقة العلوة القديمة بالمدينة، موضحة أن الأخير نقل إلى أحد المستشفيات القديمة، وأدخل العناية المركزة نتيجة تعرضه لإصابات في مناطق متفرقة من جسمه. وأكدت وسائل إعلام محلية أن الناشط كان قد ظهر على شاشات التلفرة بعد حريق مستشفى الناصرية الأخير (يوم الإثنين الماضي)، وتحدث عن بعض التفاصيل المتعلقة بالحادث، موجهاً انتقادات للمسؤولين عن القطاع الصحي، ومتحدثاً عن قيام بعض الجهات بالوقوف وراء الحريق.
وحمّل أحد ناشطي الاحتجاجات في الناصرية، علي الربيعي، السلطات المحلية في ذي قار والحكومة المركزية في بغداد، مسؤولية استمرار عمليات استهداف الناشطين في المحافظة، بأن "قوى اللا دولة تريد أن توصل رسالة مفادها أن عمليات الاغتيال والضغط والترهيب ضد الناشطين لن تتوقف". وشدّد الربيعي، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن "ضعف إجراءات الحكومة ضد عصابات القتل والتهديد تتسبب باستمرار عمليات الاغتيال والترويع".
في ظلّ هذه الأجواء، تشهد بغداد والناصرية والبصرة وبابل، اليوم الأحد، مسيرات للمطالبة بإنهاء الإفلات من العقاب والقبض على المتورطين بقتلة الناشطين. ولا تقتصر المسيرات على داخل العراق، إذ من المقرر أن تنظم الجاليات العربية والعراقية مسيرات مماثلة اليوم في العاصمة الأميركية واشنطن، وولايات أميركية عدة، منها كاليفورنيا وتكساس وميشيغن، وكذلك في العاصمة البريطانية لندن، فضلاً عن مدينتي أوتاوا وتورونتو الكنديتين، وأوروبياً أيضاً في لاهاي وباريس وجنيف ومالمو وهلسنكي، وبروكسل. وقد حصل المنظمون على ترخيص مسبق لمسيراتهم من قبل سلطات تلك الدول، على أن يتخلل التحركات رفع صور للمتهمين بالتورط بالانتهاكات بحق الشعب العراقي.
وتم توحيد المسيرات بعنوان إنهاء الإفلات من العقاب، مع طباعة يافطات بلغات عدة في محاولة للفت أنظار العالم إلى ما يجري في العراق من انتهاكات وجرائم، وخصوصاً بحق الناشطين والقوى المدنية واللادينية المطالبة بالإصلاحات وإنفاذ القانون والنظام على الفصائل المسلحة والأحزاب الدينية.
تشهد واشنطن ومدن أميركية وكندية وأوروبية، مسيرات اليوم لمحاسبة القتلة
وتأتي المسيرة في العراق، مع زيادة شعور الناشطين بأن الحكومة غير قادرة على وقف قتل المحتجين ومواجهة سلطة الأحزاب والفصائل التي تسيطر على كل شيء تقريباً في البلاد، بما في ذلك على الأجهزة الأمنية والقضائية، فيما لا يحصد العراقيون غير الوعود بالكشف عن القتلة والفاسدين والمتورطين بملفات تغييب ناشطين ومدنيين. ويحصل ذلك على الرغم من امتلاك القضاء العراقي الأدوات الكافية للتحرك ومحاسبة الجهات المتسببة بالأزمات والمشاكل الأمنية وعمليات اغتيال صنّاع الرأي العام من المحتجين والصحافيين. ويأمل الناشطون العراقيون من مسيرتهم اليوم، أن تدفع جمعيات ومنظمات دولية وشخصيات عامة أجنبية مؤثرة لمساعدتهم على مستوى صناعة الرأي العالمي.
وحول ذلك، قال الناشط والصحافي العراقي المقيم في الولايات المتحدة، معن الجيزاني، وهو أحد المنظمين لمسيرات "إنهاء الإفلات من العقاب"، إن "مسيرة بغداد لم تكن من ضمن برنامج المسيرات العالمية، لأن الفريق المنسق للحملة يعلم أن التظاهر والاحتجاج داخل العراق مغامرة كبيرة، ولكن إصرار أعداد كبيرة من المحتجين داخل العراق على المشاركة في مسيرات الأحد، جعلنا ننسق مع اتحاد طلبة بغداد لتنظيم هذه المسيرة على اعتباره جهة غير مسيسة أولاً، وقدرته على إدارة مسيرات منظمة بلا حوادث ثانياً". وأضاف الجيزاني، في تصريح لـ"العربي الجديد": "لا نعتقد أن القضاء العراقي مستقل، بل هو أداة في يد سلطة مستبدة تحظى بغطاء دولي، ونحن سننزع عنهم هذا الغطاء ونكشفهم جميعاً أمام العالم وستكون قضيتنا رابحة".
من جهته، قال الناشط من بغداد سيف العراقي، لـ"العربي الجديد"، إن "المسيرة ستكون فرصة للحكومة والقضاء في البلاد كي يتعكزا على الجهود الشعبية، من أجل تنفيذ القرارات الخاصة بمحاكمة المسؤولين الفاسدين وقتلة المتظاهرين، وعدم السماح بعمليات تهريب المدانين في ملفات جنائية والمجرمين". واعتبر أنه "إذا كانت السلطات في العراق جادة في معاقبة كل المسيئين، فإن هذه المسيرة ستكون الدافع الشعبي والضامن لاستمرار عمل القضاء العراقي".
وأضاف الناشط من بغداد، أن "جميع الناشطين في العراق والمتظاهرين والصحافيين يدعمون أي جهود حكومية في سبيل تقوية الأجهزة القضائية والمحاكم لمحاكمة القتلة والمليشيات المسلحة، ناهيك عن محاكمة كل المتورطين بالدم العراقي، لا سيما المتهمين بتنفيذ أحكام الإعدام الجماعي بحق ثوار انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول".
العبايجي: معظم الأجهزة الحكومية تعاني من سيطرة حزبية وسياسية وجماعات مسلحة
وكانت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الإخفاء القسري، قد أصدرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، نتائجها بشأن العراق، ودعت السلطات العراقية إلى إدراج جريمة الإخفاء القسري في التشريعات الجنائية المحلية، وضمان عدم احتجاز أي شخص في مكان سرّي. كما دعت إلى إنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب، وتفعيل لجان التحقيق، فيما انتقدت استمرار ما أسمته "تكرار الإيذاء". لذلك يستعد الناشطون في بغداد إلى الإعلان عن بيان رسمي، يوجه إلى القضاء العراقي والمنظمات الحقوقية الدولية، بينها الأمم المتحدة، لشرح المشاكل التي يواجهها القضاء العراقي في سبيل استمرار عمله بنزاهة وحيادية، وتحديداً تدخّل المليشيات بعمل المحاكم.
من جهتها، بيَّنت رئيسة "الجبهة المدنية العراقية"، النائب السابقة شروق العبايجي، أن "معظم الأجهزة الحكومية والدوائر، لا سيما التي ترتبط بإجراء التحقيقات والتقصي بشأن قتل المتظاهرين أو المدنيين والناشطين والصحافيين، تعاني من سيطرة حزبية وسياسية وجماعات مسلحة، وهي تعمل على ترهيب الدولة ومنع أي جهود في سبيل تحقيق العدالة، وتساهم بشكلٍ مباشر بإفلات المتورطين من العقوبات، إلا أن جيل الشباب الجديد يدرك تماماً أن الاحتجاجات السلمية هي وسيلة ضاغطة على السلطات من أجل السير بإجراء عملها بطريقة صحيحة، على الرغم من أن كل ظهور للمحتجين يؤدي إلى مقتل عدد منهم".
وأوضحت العبايجي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "استمرار الخذلان الحكومي للعراقيين الذين يطالبون بالقصاص من المتهمين بقتلهم وسرقة أموالهم وأحلامهم، سيؤدي إلى تعاظم الأدوار الشعبية، فالبداية كانت عبر الاحتجاجات وحالياً هناك تطور في مستوى الوعي العام، عبر مسيرة توجه إلى أنظار العالم، وقد تلحق بهذه الخطوات توجهات نحو فضح طبيعة النظام والأحزاب الحاكمة في البلاد".
أما سكرتير الحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي، فقد أكد "دعم الحزب لمسيرة إنهاء الإفلات من العقاب، ودعم أي جهود محلية أو دولية في سبيل إحقاق الحق وتقوية أجهزة الدولة، لا سيما القضائية، ولا يجب أن يقتصر الأمر فقط على ضحايا ثورة تشرين، بل إنهاء إفلات كل المتورطين بكل جرائم القتل والفساد والتجاوزات على حريات العراقيين منذ عام 2003". وأكد فهمي، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن "الأدوات السلمية في النهاية ستؤثر على العمل السياسي في العراق، ومنها المسيرات الواعية التي تكشف مدى التغول الحزبي في كل مجالات الحياة الحكومية، ناهيك عن السلاح المتفلت الذي بات يهدد أي ملف، سواءً أكان شعبياً أم سياسياً أم حتى قضائياً".