بين الإيمان والإلحاد

01 سبتمبر 2018
+ الخط -
تقول الأسطورة إنّ راعيا شرع في الصلاة، بينما خرافه ترعى حوله، ولاحظ أنّه كلما صلّى ركعتين ماتت إحدى تلك الخراف، وكلّما زاد في الصلاة زاد الموت الذي حصد أرواح قطيعه. لكن ما حدث لم يمنعه من إتمام تعبّده، واستمر على ذلك الحال إلى أن بقي عنده خروف واحد يثغو بقوّة خلفه، فنظر إليه الراعي مهدّدا: بدك تسكت ولّا أصلّي ركعتين؟!
الذين نجحوا في الحكم عبر التاريخ هم الذين لم ينازعوا الآلهة مكانتها عند الناس مباشرة، وإنما خلقوا لهذه الآلهة وسيطا أو "خليفة"، له كل سلطات وميزات الآلهة، ولكن بأسماء مختلفة ووظائف أخرى، وصلاحيات أوسع. ولهذا سوف تجد أن التسلسل لهذا الحكم على طول الزمن يبقى واحدا: إيجاد اسم للمعبود الوسيط ومنحه رواية تجعل صلته بالآلهة صلة أولى، ثم توجيه الاحتفالات والقرابين والدعوات إلى الوسيط وحده من دون الآلهة الأم، ثم جعل الآلهة الجديدة تنطق بقوانين الحاكم مبتدعها وقواعده، وكنتيجة حتمية خلق دين جديد لا يمت لأي دين أو إله بصلة، دين هلامي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، دين لا يمنحك الحرية المزعومة، وإنما يجبرك على أن تكفر به وبكل ما سواه.
كانت البدايات، بداية فصل الدين عن الحكم، والتي أخذت تتضح معالمها في نهاية القرن الثامن عشر، عبر حصر "إقامة الله" في الكنيسة والمسجد، ثم سارت إلى حصر الدين في عبادتك الشخصية وعزله تماما عمّا خارج صلاتك، ثم ربط الدين بصورة شخص متدين متطرف ذا سلوك جاهلي وحشي، يعذب روّاد الكنيسة ويقتل مخالفيه على باب المسجد، وأخيرا تعميم نتيجة الشر على الموافق والمخالف على حد سواء، بكل صور الشر وأشكاله لمنازعة الله سلطاته ثم نزعها عنه وتسليمها لإنسان، بحيث يصبح كل شخص إله نفسه.
ولكن كيف يكون الشر أداة لقتل الله حتى في عين العاقل الحليم؟ لنتأمل في ما يلي:
أولا: الحروب والقتل الحر والدمار والظلم العالمي وانتشارها بشكل لا محدود ولا مفهوم الغرض، يثير تساؤلا واحدا: أين الله من كل ما يحدث في الأرض؟ من منطلق أن الله هو المسؤول عن الخطأ فقط، والإنسان ليس مسؤولا عن نتائج أعماله.
ثانيا: شيطنة كل ما يتصل بالدين، إسلاميا كان أم مسيحيا، أم سواهما، وذلك عبر شيطنة الإسلامي بربطه بالإرهاب والقتل والتعذيب وجعله على صورة قاتل "داعشي" فقط، وشيطنة المسيحي بربطه بالتخلّف والشذوذ، وجعله على صورة رجل الدين مغتصب الأطفال فقط!
ثالثا: تفشّي المرض الذي ينتشر بفعل الغذاء المعدَّل والدواء المتاح لكثرة مصنّعيه أكثر مما ينتشر بفعل الفيروسات والبكتيريا، والذي بدأ يخطف من أرواح "الفقراء" أكثر مما يفعل الله، والذي بات سببا لـ "تطهير بشري" أو "هولوكوست إنساني"، يوّفر الموت للجميع بسعر منخفض.
رابعا: الاستهلاك المَرَضي بكل أنواعه وأشكاله الذي بات يعني أن كل رغبة لك يمكن تحقيقها في الحياة الدنيا، وأن لا حاجة يمكن تأجيل قضائها، ولا رغبة يمكن كبتها، فالجنة في الحياة، الآن وهنا، ولا حياة أخرى يمكن أن تحتوي أكثر من هذا النعيم!
خامسا: إهمال فكرة تهديد الفناء لكوكب الأرض ومَن عليه، بفعل أحداث حقيقية نفاد الموارد الطبيعية، شحّ الماء الصالح، التلوّث الجوي السُّمّي العالمي، الحرب النووية، الاحتباس الحراري.. وليس فقط عدم العمل على إصلاحها وإنما عدم لفت نظر العامة لها أو تحذيرهم، وبالتالي فإنّ الناس ترى نتائج ذلك في حياتها اليومية دون أن تعرف له سببا واضحا!
سادسا: حصر وانحسار مساحة الثروة بشكل متسارع محموم لتتجمع في يد أقل عدد وأقل نسبة من الناس والمؤسسات في العالم.
سابعا: خنق الصوت العقلاني لمسؤول أو مفكر أو عالِم وتسليم ميكروفونات الإعلام والحكم لذوي "القدرة" و"الكفاءة" على التأكيد على كل ما سبق.
يصب ما سبق كله في نقطة واحدة، هي أنّ التخلّص من فكرة هيمنة الله ستجعلك حرّا، ومن ثم تستطيع حلّ مشكلاتك التي أنت أهلا لها، بنفسك من دون رجوع إلى قاعدة أو نص، وبالتالي لك أن تركض كالخيل بكل سرعتك وقوتك، حتى تكسب السباق الذي سوف يميتك تعبا وقهرا، كنتيجة طبيعية عند خط النهاية، فأنت لم تحل مشكلتك، وإنّما حلّلتَ الإنسان إلى عناصر خام أولية، ليس لها قيمة ولا مرجعية ولا قوة جمعيّة، يسهل القضاء عليها تماما.
هذا فيما يخص الإنسان العالمي في كل مكان على الأرض. ولكن: ماذا بشأن العربي الذي هو ضمنيا يمتص كل صورة ونمط، الغربي منها خصوصا، من دون إرجاع ذلك إلى معيار اجتماعي، أو خلفية فكرية أو قاعدة أخلاقية، تَبَعًا لكل ما ورد أعلاه.
العربي البسيط أمره بسيط، كما العادة، فالإلحاد هنا "موضة" يباهي بها أقرانه ويتفاخر بحيازتها لا لسبب بعينه، فهو لا ينكر الله عن قناعته بشيء ما أو بخلافه، وإنما هي عنده مثل لبسه الجينز الممزق، أو كتابته الكلمات العربية بأحرف إنجليزية لا أكثر!
76875C56-05E8-4D8F-A584-526B0E6E0040
76875C56-05E8-4D8F-A584-526B0E6E0040
هند دويكات (فلسطين)
هند دويكات (فلسطين)