كل هذا الجدل في لبنان عن العملاء

21 سبتمبر 2019
+ الخط -
ليس اللبنانيون في حاجة الى ما يتلهون به، أو ما يموهون به عن مشكلات بلدهم الواقف على حافة الانهيار الاقتصادي والمالي، وعن الضائقة المعيشية التي يتخبطون فيها، وتتحمّل مسؤوليتها الطبقة السياسية التي تحكم البلد منذ سنوات، فالخلاف في السياسة في بلد تعدّدي ومتنوع أمر صحي وإيجابي، ولكنه يتعدّى السياسة، ليمتد إلى الطائفة والمذهب، ثم يعبر التناتش على الحصص، ليصل حتى إلى تطييف مشكلة النفايات ومذهبتها! أركان الحكم أنفسهم هم من يتفنن في تهيئة الأجواء لإحداث إشكاليات تثير جدلا واسعا، وتسعّر سجالا حادّا، يزيد في انقسام اللبنانيين، ويحرف أنظارهم عن ارتكابات سلطة غارقة في عجزها وفسادها، ومتخلية عن قرارها السيادي، سلطة تعجز عن إقرار الموازنة السنوية العامة للدولة التي هي في أساس سياسة الحكومة وانتظام اقتصادها وعمل مؤسساتها. سلطة تُغدق عليها دول أوروبية ومؤسسات مانحة قروضا ومساعدات وهبات تصل إلى 11 مليار دولار لمساعدتها على انتشال البلد من عجزه ومديونيته التي تلامس مائة مليار دولار شرط إدخال إصلاحات بنيوية، فلا تجد آذانا صاغية. 
جديد ما يشغل اللبنانيين هذه الأيام موضوع العمالة الذي قفز إلى الواجهة مع عودة اللبناني العميل، عامر فاخوري، إلى لبنان بعد غياب أكثر من عشرين سنة قضاها في الولايات المتحدة. كان مسؤولا في زمن الاحتلال الإسرائيلي عن التعذيب والقتل في سجن الخيام الذي اكتظ بالمقاومين اللبنانيين والرافضين للاحتلال قبل أن يتحرر الجنوب عام 2000. وكانت قد صدرت بحقه أحكام بالسجن بلغت المؤبد، إلا أنه التجأ إلى إسرائيل قبل التحرير، وقبل صدور الأحكام بحقه، ومن هناك غادر إلى الولايات المتحدة. عاد الأسبوع الماضي حاملا جوازا أميركيا، وبعد أن نسج علاقات متينة مع "التيار العوني"، وكان له أكثر من لقاء مع رئيس التيار ووزير الخارجية، جبران باسيل، في الولايات المتحدة. لم يعد ليسلم رقبته للقضاء، خصوصا أن ضابطا كبيرا تبرّع باستقباله ومرافقته من المطار. ولكن ما أن اكتُشف أمر عودته، حتى تصاعدت أصوات مطالبة بسوقه إلى القضاء، علما أن الاحكام التي صدرت بحقه سقطت بمرور الزمن، أي بعد أكثر من عشرين سنة. واندلع السجال بشأن مدى صحة سقوط الأحكام عن العملاء، وما إذا كان يجب توقيف فاخوري وإعادة محاكمته، كما يطالب معتقلون سابقون وأهالي معتقلين في معتقل الخيام سيئ الصيت. فيما انقسم العونيون بين أقلية مؤيدة وأكثرية رافضة تعتبر أن القضية تندرج تحت بند "المبعدين إلى إسرائيل الذين يجب تأمين العودة لهم"، بحسب الاتفاق الموقع بين التيار العوني وحزب الله عام 2006. واجتهد محامون ورجال قانون في تفسير القانون وحيثية سقوط المهل القانونية. ولكن فاخوري أحيل إلى التحقيق، وصدرت بحقه مذكرة توقيف، وتم
توقيفه فعلا. وتحول السجال بشأن العمالة إلى سجال وطني مصيري بامتياز، أعاد انقسام اللبنانيين حوله، وعاش جنوبيون مجدّدا ذكريات الماضي الأليم، إلى درجة أن هناك من كتب يعتبر أن "عودة العميل فاخوري تحد للشيعة ومؤامرة عليهم"، وكأن المقاومة كانت فقط شيعية، ولم تضم في صفوفها مسيحيين، فيما انبرى أحد نواب العونيين، وهو محام جنوبي، رافضا توقيف فاخوري وإعادة محاكمته. والغريب والمثير أكثر هو موقف حزب الله الذي التزم الصمت. هل أراد مسايرة حليفه العوني؟ وإعادة تسليط الضوء على سنوات زمن الاحتلال، واستعادة مناخ التعبئة والنضال ضد إسرائيل، قد خفف الضغط عنه، نتيجة "السجال الحربي" أخيرا مع إسرائيل، وخصوصا تحويل أنظار الجنوبيين عن معاناتهم، ولو مؤقتا، جرّاء العقوبات الأميركية على الحزب، والتي تنعكس عليهم بالمباشر.
المفارقة في مكان آخر يعكس ماكيافيللية وشيطانية من حاول توظيف مسألة فاخوري بطريقة أخرى، ولغرض آخر، عملا بما يسمى "التشاطر اللبناني"، ففي عز السجال بشأن دخول فاخوري لبنان، وكيفية التعامل معه، يتم نشر صورة على مواقع التواصل الاجتماعي تجمعه مع قائد الجيش جوزف عون خلال حفلة استقبال أقامتها السفارة اللبنانية في واشنطن على شرف الأخير خلال زيارة له الولايات المتحدة. من وراء نشر الصورة وكيف حصل عليها؟ وكيف لعميل معروف أن يتصور مع قائد الجيش في داخل السفارة؟ وهذا يعني أن السفير يعرف فاخوري وعلى علاقة معه، فمن الذي تقصد تشويه صورة قائد الجيش وسمعته؟ علما أنه تبين أن قائد الجيش لا يعرف فاخوري، والتقط صورة معه، كما فعل مع ضيوفٍ آخرين... ألسنة السوء أوحت أن وراء هذه الفخ جبران باسيل نفسه الذي يرى في قائد الجيش خصما ومنافسا له على طريق الرئاسة! 
وفي خضم هذا السجال عن العمالة متشعب الأغراض والنوايا المشبوهة، تصدر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تحقق في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، (فبراير/ شباط 2005) قرارا جديدا تتهم به أحد كوادر، حزب الله، سليم عياش، باغتيال أمين عام الحزب الشيوعي السابق جورج حاوي (يونيو/ حزيران 2005)، وبمحاولة اغتيال النائب مروان حماده (نوفمبر/ تشرين الثاني 2004)، والوزير السابق إلياس المر (يوليو 2005) وتطالب بتسليمه للتحقيق. ويؤكد القرار الترابط بين الجرائم التي ارتكبت، وأن المخطط والمنفذ طرف واحد، إذ سبق وأن المحكمة اتهمت عياش بجريمة اغتيال الحريري، ولكن حزب الله
 يرفص تسليمه، وتسليم المتهمين الآخرين. وفورا علت الأصوات المطالبة بتسليم عياش، معتبرة أنه مجرم لا فرق بينه وبين فاخوري، وعاد السجال بشأن مفهوم العمالة الذي لا يقتصر، برأي هذا الفريق على المتعاملين فقط مع إسرائيل، فهذا تصنيف وتوصيف لم تعد إسرائيل المتفرّدة به. العميل هو كل من يخون وطنه أو يرتكب جريمة بحق سياسي أو صحافي من وطنه، أو يتعامل مع دولة أجنبية، أو يتواطأ معها، أو يلتزم أوامرها. والأجنبي يعني إذا كل من هو غير لبناني، ولا فرق إذا كان هذا عربيا يتعاطى مع لبنان أو يمارس على اللبنانيين ما تمارسه إسرائيل، وأحيانا أسوأ. وقد مر على لبنان أكثر من احتلال ووصاية أجنبية، فالنظام السوري الأسدي احتل جيشه لبنان نحو ثلاثين سنة، وفرض سيطرته وأزلامه في الحكم، فمن تعامل أو يتعامل مع هذا النظام ضد مصلحة اللبنانيين يصبح عميلا له، وكذلك من يتعامل أو يأتمر بأوامر سلطة الملالي يصبح عميلا لها، فإيران تمارس اليوم أيضا وصايتها على لبنان عبر طرف محلي مسلح ينفذ سياستها. ويعتبر هؤلاء من اغتال الحريري مجرما وعميلا للدولة التي جندته لارتكاب الجريمة، وكذلك من اغتال كمال جنبلاط، وتطول السبحة.. أو ما ارتكبه الوزير والنائب السابق، ميشال سماحة، الذي ضبط قادما من سورية (صيف 2012) محمّلا سيارته بقنابل ومتفجرات لارتكاب عمليات تفجير واغتيال في لبنان، أليس عميلا للنظام السوري؟! هنا تتساوى العمالة للسوري والعمالة للإيراني بالعمالة للاسرائيلي، فلماذا إذا يجب أن تعاد محاكمة العميل الاسرائيلي ولا يتم تسليم المجرم أو العميل السوري أو الإيراني للتحقيق معه ومحاكمته؟ ويستمر الجدل انعكاسا لمرآة التنوع والاختلاف السياسي المتجذر، ولتعدد الانتماءات الطائفية والولاءات والثقافات وأنماط التفكير.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.