30 يونيو … مليون كذبة
انقضت عشر سنوات كاملة منذ تلك النزوة الثورية المسكونة بكل نوازع الانتهازية السياسية لطيف واسع من المعارضات المصرية. ينبغي أن تكون توقيتًا مناسبًا للمراجعة بشيء من الجدّية والنزاهة، سيما وأن النتائج كارثية، بإجماع كل الأطراف. هي عشريةٌ سوداء، بنظر السواد الأعظم من الجماهير، وبكل الاعتبارات والمقاييس الموضوعية، تغرق فيها مصر منذ الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 على مختلف الأصعدة، دفعت فيها مصر أثمانًا باهظة لتلك الأكذوبة النخبوية المدمّرة التي روّجها معارضون فاشلون، وتقول إن من الممكن التحالف مع المؤسّسة العسكرية لإزاحة فصيل سياسي بالقوة (الإخوان المسلمين)، وتثبيت بديل له، يطلق على نفسه التيار المدني الديمقراطي.
تفرّعت عن تلك الأكذوبة الأساس ملايين الأكاذيب، اتّخذت صفة القداسة، بحجّة أن كل الأسلحة مشروعة، بما فيها الافتراء والكذب، من أجل إسقاط الرئيس القادم من جماعة الإخوان، حتى يمكن الادّعاء إن عدد الأكاذيب التي راجت خلال هذه العشرية فاق عدد الذين أخرجهم تحالف الجيش والشرطة ومعارضة سلمت نفسها لهما.
من بين تلك الأكاذيب الزعم إن "الإخوان" قوة سياسية جبّارة، لا تقلّ في قوتها عن المؤسّسة العسكرية. وبناء عليه، لا سبيل لمنازلتها بالسياسة، وأن السبيل الوحيد هو اللجوء إلى الجيش، لكي يسقطها من أجل عيون تلك القوى المدنية ... ها هي الأحداث أظهرت أن هذه الجماعة من الهشاشة ما يسمح بمنازلتها، بل والتفوّق عليها سياسيًا، بشيء من التنظيم والقدرة على إنتاج خطاب سياسي محترم، ينطلق من مرتكزات الثورة المصرية 2011، ولا يرهن نفسه لثورة مضادّة تمتطيه.
بعد عشر سنوات من البؤس السياسي، يطرح الحقوقي المصري، بهيّ الدين حسن، ما يصفه بأنه سؤال عابر، يصيغه على النحو الآتي: علي ضوء 10 سنوات من الحصاد الاقتصادي والسياسي والانساني المرّ؛ لو عاد الزمن للوراء إلى 30 يونيو 2013، هل يقرّر التيار المدني من أبناء انتفاضة 25 يناير التحالف مع الجيش والأجهزة الأمنية لإطاحة الإخوان المسلمين، أم يخوضون صراعا سياسيا مدنيا لتحقيق برنامجهم؟. يعيدني هذا السؤال إلى مقال كتبته في 28 يونيو/ حزيران 2013، ونشرته تحت عنوان"الجيش ليس فتوّة الحارة"، أعيد نشره الآن، محاولًة للإجابة عن سؤال تأخّر طرحه عشر سنوات:
المؤيدون والمعارضون يهينون الثورة، ويبتذلون أنفسهم ويبتذلون الجيش نفسه أيضا عندما يتعلقون بطرف ثوبه ويتشبثون برباط البيادة، طالبين منه أن يخوض لهما معركتهما السياسية.. كلاهما ينقلب على ثورته، ويدير ظهره للديمقراطية، ويخاصم أبسط قيم الدولة العصرية الحديثة، حينما يتعامل مع الجيش وكأنه فتوّة الحارة الذى يخطبون ودّه، ويتعلقون بقوته كالأطفال الخائبين، كى يهزم لهما الخصم ويمحو وجوده على أرض الحارة. إن عواجيز السياسة وعجزتها ممن صدّعوا رؤوسنا بقيم الدولة المدنية العصرية الديمقراطية هم أول من يلحسون ما روّجوا له وبشّروا به من أفكار باعوها للمواطنين باعتبارها المنقذ لمصر من الاستبداد والشمولية للدخول فى عصر الدول الحديثة، وقد رأيناهم عراةً من أي قيمة، حين تحوّلوا إلى مجرد أبواق تهتف، وأكفّ تصفق لمهزلة جمع توكيلات لوزير الدفاع لكى يتولى السلطة من رئيسٍ جاء إلى الحكم عبر انتخاباتٍ اعتبرتها العسكريون الذين حكموا البلاد عقب الثورة أهم إنجازاتهم السياسية على الإطلاق. ورأينا من كانوا يهتفون بسقوط العسكر ويتهمونهم بالتحالف مع الأخوان، يتسوّلون انقلابا من الجيش ويحرّضون عليه، ويثيرون الفتن ويسمّمون المناخ بالشائعات والتسريبات من أجل صناعة صدام بين المؤسّسة العسكرية ومؤسّسة الرئاسة.
ومرّة أخرى يخطئ من يتوّهمون القدرة على إزاحة رئيس جاء إلى الحكم من خلال عملية سياسية، بعملية قرصنة أو تحريضٍ للمؤسّسة العسكرية على الانقلاب عليه، فمن شأن ذلك أن يفتح أبواب جحيم سياسي لن يقوى أحد على السيطرة عليه قبل عقود من الزمن ... ويخطئ هؤلاء أكثر إذا تصوّروا أن أحدا سيصدّق أنهم جادّون فى السعى لتولي شؤون الحكم، بينما هم أول من يكرّس وجود النظام الحالي، ويثبت دعائمه بفرارهم المستمر من السياسة، والقفز في بحيرات العبث. غير أن حالة التعلّق بطرف جلباب الجيش ليس حكرا على المعارضة العجوز الهاربة من استحقاقات الديمقراطية، إذ يسلُك قطاعٌ من مؤيدي شرعية الرئيس على النحو ذاته، واقعين فى الخطأ نفسه الذى يحوّل الجيش المصرى من كونه واحدة من مؤسّسات الدولة التى تحترم دستورها ونظامها السياسى إلى القوي الشجاع الذى يتمنّون أن ينصرهم على خصومهم.
وكلا الطرفين، للأسف الشديد، يرتكب الحماقة ذاتها، ويرتدّ عن قيم الديمقراطية والدولة المدنية، ويتملّص من مبادئ الثورة، متجاهلين أن مصر دولة لها جيش عصري محترم، وليست جيشا له دولة. مرّة أخرى: دعوا العبث وابدأوا حياة سياسية جادّة، هذا أفضل لكم .. وارحموا مصر وجيشها من جحيم إن انفتح فلن يتمكّن من إغلاقه أحد.