30 عاماً على الإبادة الجماعيّة في رواندا
خلّدت رواندا، قبل أيام، الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعيّة التي خلّفت مئات آلاف من القتلى، وعُدَّت واحدة من أكبر الإبادات في النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى الرغم من كل التدابير التي قامت بها رواندا، على درب معالجة الشروخ المجتمعية العميقة التي خلّفتها أحداث 1994، إلا أن ترميم الذاكرة الجماعية واستعادتها، وترسيخ المصالحة الوطنية، ذلك كله يبقى التحدّي الأكبر بالنسبة لدولة تراهن على الأجيال الجديدة في تخطّي إرث تلك المأساة وضمان عدم تكرارها، خاصة بعد أن أصبحت البلاد واحدة من التجارب الاقتصادية الصاعدة في القارّة الأفريقية.
بدأت الإبادة الجماعية في رواندا بمقتل الرئيس جوفينال هابياريمانا في حادث طائرة في 6 إبريل/ نيسان 1994، لتنطلق على إثرها أعمال عنف واسعة، بعد أن اتهمت أغلبية ''الهوتو'' أقلية ''التوتسي'' بالضلوع في الحادث. وسرعان ما تحوّلت أعمال العنف إلى إبادة جماعية ممنهجة، حيث أقامت مليشيات عسكرية وأمنية، من ''الهوتو''، حواجز تفتيش في العاصمة كيغالي. وقد مكّنت بطاقات الهوية، التي تحدّد الانتماء العرقي لأصحابها، تلك المليشيات من التعرّف إلى كل من ينتمي لـ"التوتسي" وإعدامه فوراً. ثم ما لبثت أن خرجت الأوضاع عن السيطرة بعد اتساع أعمال الإبادة لتشمل معظم أنحاء البلاد، إلى درجة أن أعداداً كبيرة من "التوتسي" صفّتهم تلك المليشيات، بسبب شكوكٍ في ولائهم لإثنيتهم أو رفضهم الاشتراك في المجازر التي نفذت بحقّ "الهوتو".
أسباب كثيرة كانت خلف تلك المأساة المروّعة، في مقدمتها الإرث الاستعماري، حيث ارتبط ''التوتسي'' بعلاقات مصالح مع سلطات الاستعمار البلجيكي، وهو ما عمّق الانقسام في المجتمع الرواندي، فقد رأى ''الهوتو''، الذين كانوا يعانون من التهميش الاقتصادي والاجتماعي، في "التوتسي" حلفاء للاستعمار. كما فشلت الدولة الوطنية في تحقيق الحدّ الأدنى من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحلِّ مشكلة الاندماج الوطني، وإدارة التوتّر بين الإثنِيتَيْن المتصارعتين. يُضاف إلى ذلك دورُ الإعلام في تأجيج مشاعر الكراهية والعنصرية والتفوّق الإثني والقبلي، هذا من دون إغفال تقاعس الأمم المتحدة والدول الغربية الكبرى التي سقطت في أول امتحان أخلاقي وإنساني بعد نهاية الحرب الباردة. لقد كشفت الإبادة الجماعية في رواندا، من بين أحداث ووقائع أخرى، زيف النظام العالمي الجديد، الذي يُفترض أنه قام على مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، إذ فشلت مؤسّساته، وفي مقدّمتها الأمم المتحدة، في وقف المقتلة الرواندية التي ظلت مفتوحة أكثر من ثلاثة أشهر. ورفضت القوات البلجيكية والفرنسية التدخل لمنع الإبادة الجماعية بحقّ ''التوتسي''، ضمن حسابات الصراع على إعادة تشكيل مناطق النفوذ في شرق أفريقيا مطلع التسعينيات، خصوصاً بين فرنسا التي ساندت ''الهوتو'' والولايات المتحدة التي راهنت على "التوتسي"، من خلال جبهة رواندا الوطنية.
تضجُّ الإبادة الجماعية في رواندا بدروس وخلاصات توجِب الوقوف عندها، سيما بالنسبة للمجتمعات الأفريقية التي لا يزال التوتر الإثني والقبلي قنبلة موقوتة في معظمها. ومع غياب نخب سياسية مؤهلة لإدارة هذا التوتر بأقلّ التكاليف الممكنة بتعزيزها الهوية الوطنية الجامعة في مقابل الهويات الإثنية والقبلية الفرعية، تزداد مخاطر الانجرار، في غير بلد أفريقي، إلى دوّامة عنف قد تتحول، بسهولة، إلى إبادات جماعية أخرى لا تقل فظاعاتُها عن التي جرت في رواندا أمام مرأى ومسمع من العالم.
من ناحية أخرى، يستدعي تزامنُ الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية في رواندا مع الإبادة التي تقوم بها دولة الاحتلال الصهيوني في غزّة أسئلة كثيرة، أبرزها دور التطرّف الأيديولوجي والسياسي في تغذية مشاعر الكراهية والتفوّق العنصري، ومن ذلك، مثالاً لا حصراً، ما طرحه وزير يميني إسرائيلي متطرّف، مع بداية العدوان، بشأن إسقاط قنبلة نووية على قطاع غزّة، وهو الطرح الذي ما كان لصاحبه أن يجرُؤ عليه لولا الغطاء الإعلامي والسياسي الذي يوفره الغرب، فتصبح الإبادة الجماعية في غزّة نزاعاً فلسطينياً إسرائيلياً يستوجب إحياء حلّ الدولتين، مثلما كانت الإبادة الرواندية مجرّد حربٍ أهلية في بلد أفريقي.