امرأة نحيلة في عربة

10 نوفمبر 2014
+ الخط -

كثيرون من فناني القرون الماضية عاشوا مُعدمين، وماتوا كذلك. بعضهم جنَّ، مثل فان كوخ الذي تمكَّن، بالكاد، من بيع عملٍ، أو اثنين، من طريق أخيه العامل في مهنة بيع اللوحات الفنية لأثرياء نهاية القرن التاسع عشر. لكن بعض هؤلاء الذين لم يجدوا، أحياناً، مواد عملهم الأولية، كالفراشي والألوان، أصبحوا مليارديرات، وهم عظام في القبور. مفارقة، أليس كذلك؟ لكنها لم تعد تدعو إلى العجب، فقد استنفد هذا الكلام معناه من فرط تكراره، ولا جديد فيه سوى أن الواقع يمعن، بنوعٍ من الميلودراما الهندية، في تكراره، على ما يبدو. فما يحصل في سوق الفن التشكيلي العالمي يفوق الخيال، ويغادر كل منطق (حتى على المستوى التجاري) ما يجعلنا أمام سباق في الأرقام القياسية، وليس أمام لوحة أو تمثال، أو تجربة فنية، أياً كانت عظمتها، أو فرادتها، بحيث يختفي الفنيُّ، هنا، ليحلَّ معيار كتاب غينيس. ومن طبيعة الأرقام القياسية أنها تغري، لمجرد التحدي أو المباهاة، بكسرها. هذا هو الأصل في الأرقام القياسية التي وجدت لتُكْسر. هكذا، قد نبدأ ببيع لوحة لفان كوخ، إياه، بمليون دولار، مثلاً، ثم نصل إلى العشرة والعشرين والثلاثين والخمسين مليون دولار، وقد لا ننتهي بمائة مليون دولار، ثمن لوحةٍ لفنانٍ قطع أذنه "تعبيراً" عن الحبِّ لامرأة أرعبتها هذه الفعلة.. بدل أن تفهمها "قرباناً" صغيراً على مذبح الحبّ!

ما يدعوني للعودة إلى هذا الجنون الذي يجتاح سوق الفنون هو الليلة التاريخية التي سجَّلت فيها شركة سوثبيز لتجارة الفنون، قبل أيام، رقماً قياسياً جديداً في تاريخ عملها البالغ 270 عاماً، حيث بلغ حصاد تلك الليلة، في نيويورك، 264 مليون دولار، لبضعة أعمال فنية، شارك فيها مضاربون من أربعين بلداً. ما هو مدهش، حقاً، في معروضات هذا المزاد أنها تضمَّنت منحوتاتٍ، وهي جنسٌ فنيٌّ غير محبَّبٍ في سباق الأرقام القياسية، والأغرب من ذلك، في ظني على الأقل، الرقمُ الذي حقَّقه تمثال برونزي واحد نحيل لا يخطئ عابر الفنون التشكيلية اسم صاحبه، فهذا النحول المسلول المتطاول هو البصمة الكاملة لجياكوميتي.

لم يعش الفنان السويسري ألبرتو جياكوميتي حياة ضنكة. ولم يمت نكرةً. فهو ولد لعائلة فنية من الطبقة الوسطى، وعاش في وسط أهم الحركات الفنية التي عرفها العالم الغربي (التكعيبية، فالسوريالية) ومات عَلماً في ساحته ومجاله، ولكني لا أظن أنه كان يتوقع، في سابع سموات خياله، بيع أحد منحوتاته النحيلة، الطاعنة في عزلتها وهشاشتها، بأكثر من مائة مليون دولار. هذا رقم فلكي لتمثال برونزي، يدعى "امرأة في عربة"، لن تغير هذه الملايين من نحوله الذاهب نحو الفناء كصوفيٍّ من برونز أو جصّ، بل، العكس، تبرزه مفارقة عجيبة على زمننا العولمي. ليس جياكوميتي عادياً في عالم النحت. هذا أكيد، ولهذا السبب، كتب عنه كثيرون من مشاهير زمنه، أبرزهم جان جينيه. إنه فنان العزلة والهشاشة والامّحاء. يعمل على تماثيله المتطاولة، نحتاً وحتَّاً، حتى لتكاد تختفي من فرط رقَّتها وهشاشتها. الأموال "النظيفة"، في هذه الحالة، هي التي تمعن في نفي المعنى الكامن في عروق هذه التماثيل النحيلة. جياكوميتي ليس مسؤولاً عن تحوّل معنى تماثيله إلى أرصدة، بل المال الذي يظن (وها هو يستطيع) أنه قادر على شراء كل شيء، وإفراغ كل شيء من معناه، أو تحويله إلى شيء آخر غير أصله.

ولكي تكتمل المفارقة أكثر، شهدت تلك الليلة النيويوركية بيع واحدة من اللوحات القليلة (قد تكون الوحيدة) التي باعها فان كوخ كي يسدَّ رمقه الفعلي والمجازي. لا أعلم بكم باع سيد التعبيرية لوحته تلك، ولكني أعرف أنها بيعت في نيويورك لمضاربٍ آسيويٍّ بأكثر من خمسين مليون دولار!

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن