11 نوفمبر 2024
تونس .. أزمة اقتصادية واستقرار سياسي هش
منذ نحو عقد، ظلت الأجراس في تونس تُقرع، منبهةً الى الوضع الاقتصادي العسير الذي تمر به البلاد. لا نحتاح معارف اقتصادية دقيقة لنقتنع بهذا التشخيص .. ثمّة مؤشراتٌ اقتصادية ربما تختفي عن غير المختصين أو يصعب التقاطها وفهمها. ولكن ثمة أعراض اجتماعية تترجم تلك المؤشرات الاقتصادية في حياة الناس اليومية، وهي مؤشراتٌ نرتطم بها بشكل مباشر، ارتفاع الأسعار، التضخم، البطالة، انخفاض قوة الدينار، تردّي الخدمات .. إلخ.
تعبّر هذه التعبيرات اليومية العرضية عن أزمة هيكلية عميقة، يفصل فيها الخبراء والمختصون القول، بحسب مدارس نظرية في علم الاقتصاد، شكلت بدورها مقاربات وحقولا اصطلاحية، فضلا عن مناهج وتقنيات بحث وأدوات قياس. ولكن على الرغم مما يعتريها من اختلافاتٍ، فإن هذه المقاربات تجمع على أن الوضع الاقتصادي صعبٌ للغاية، سماته شح موارد الدولة المالية وانخرام توازناتها، ارتفاع المديونية الخارجية، تراجع الاستثمار الخارجي. ففي دراسة قدمتها أخيرا وزارة الاستثمار والتعاون الدولي، يتوقع أن يكون الانكماش الاقتصادي في حدود 7%، في حين أن نسبة البطالة المرتفعة أصلا ستقفز من 15% إلى ما يناهز 22%، أي سينضاف ما يناهز 275 ألف عاطل جديد إلى مجموع مليون عاطل، ثلثهم تقريبا من حملة الشهائد (الشهادات) الجامعية.
تؤكد تلك العوارض مرة أخرى حدّة الأزمة التي تمر بها البلاد منذ سنوات. لم تفلح الحكومات
المتعاقبة في إيجاد حلول جذرية، تضع حدا لهذا النزيف المتواصل، وأصبحت أرقى ما تهدف إليه تأجيل وقوع الكارثة من خلال إجراءاتٍ ينظر إليها بعضهم أنها مجرّد مسكنات. وكان بعضهم قد علّقوا آمالا عريضة على انتخابات 2019 على أساس أنها قد تقطع مع تلك المواقف، خصوصا وأن رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ، قادم من وسط ديمقراطي اجتماعي، ساهم، من خلال تجاربه في الحكم سابقا، في مباشرة قضايا مالية واقتصادية مهمة، لمّا تولى حقيبة وزارة المالية خلال فترة حكم الترويكا (نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 – نوفمبر/ تشرين الثاني 2014). وهو يدرك جيدا خطورة الوضع، وملمٌّ بالملفات الكبرى التي تعني البلاد اقتصاديا. وبقطع النظر عن نيات الرجل وكفاءة أعضاء حكومته المباشرين هذه الملفات، فإن الأمر استفحل مع تزامن تسلم الحكومة حقائبها، إذا اندلعت جائحة كورونا لتلقي مزيدا من الزيت على نار هذه الملفات المشتعلة.
لقد أعلن رئيس الحكومة، في أثناء تقديم برنامجه الحكومي أمام البرلمان، بمناسبة انعقاد جلسة المصادقة على حكومته، أنه يطمح إلى تحقيق نسبة نمو خلال السنة الجارية تقارب 3%، غير أن المصادر نفسها تتوقع تراجع هذه النسبة الى ما تحت الصفر بأربع نقاط. ويؤكّد خبراء عديدون تمزق النسيج الاقتصادي للبلاد، بفعل ما تكبدتها المؤسسات الصغرى والمتوسطة من خسائر فادحة، ما دفعها إلى تسريح عديدين من عمالها، في حين تم إغلاق قطاعات بأكملها شلت تقريبا (السياحية، الخدمات)، وذلك ما سيفاقم أزمة المالية العمومية، علاوة على تلكؤ الدول والمنظمات المانحة، في ظل هذه الصعوبات التي تعولمت أكثر من أي وقت، تحت وطأة الجائحة.
تتقلص الخيارات المتاحة أمام البلاد، وتجد الحكومة نفسها أمام خياراتٍ أحلاها مرٌّ علقم. سيظل بعضهم يزايد، حين يدعو إلى نسف "الليبرالية المتوحشة"، واتهامها بأنها وراء كل بلاوى العالم. ولكن يبدو أن العقلانية والواقعية تقتضيان التخلي عن هذه الشعارات المتسرّعة، والتحلي بمزيدٍ من الحكمة في معالجة هادئة للوضع الاقتصادي، قبل إفلاس البلاد والانهيار الكبير.
لا تقتضي هذه الوضعية الصعبة اتخاذ إجراءاتٍ أحادية، بقطع النظر عن "عبقرياتها وجدارتها"، بل إجماع وطني يضع مصلحة البلاد فوق كل المصالح الفئوية الضيقة... كلما تعافت البلاد أكثر، ولو بشكل تدريجي، أمكن لها أن تقلص من البطالة التي التهمت عمر شبابها، وأن تردم أخدود الشروخ البائنة بين الفئات والجهات، وأن تقدم أيضا خدماتٍ لائقة لمواطنين، كانت الكرامة عنوان ثورتهم، والحال أن نسبة الفقر المالي سترتفع من 15% إلى ما يناهز 19%.
لا تتوفر للبلاد حلول مريحة أو سهلة، وهذا ما يقتضي مقاربات جريئة، قد لا تخلو من جرعة ألم ما، إذا ما أريد البدء في معالجات جذرية للاقتصاد المريض أصلا، والذي ازدادت علته مع جائحة كورونا. وقد بدأت موجة الاحتجاجات الاجتماعية تتتالى، وبإيقاع لم تعهده تونس، إذ عادة ما يشهد الصيف هدنة اجتماعية، يهرع فيها الناس إلى الشواطئ والمهرجانات وحفلات الزفاف. ولكن يبدو أن كورونا هذه المرّة ستجعل الصيف ساخنا مرتين.
تؤكد تلك العوارض مرة أخرى حدّة الأزمة التي تمر بها البلاد منذ سنوات. لم تفلح الحكومات
لقد أعلن رئيس الحكومة، في أثناء تقديم برنامجه الحكومي أمام البرلمان، بمناسبة انعقاد جلسة المصادقة على حكومته، أنه يطمح إلى تحقيق نسبة نمو خلال السنة الجارية تقارب 3%، غير أن المصادر نفسها تتوقع تراجع هذه النسبة الى ما تحت الصفر بأربع نقاط. ويؤكّد خبراء عديدون تمزق النسيج الاقتصادي للبلاد، بفعل ما تكبدتها المؤسسات الصغرى والمتوسطة من خسائر فادحة، ما دفعها إلى تسريح عديدين من عمالها، في حين تم إغلاق قطاعات بأكملها شلت تقريبا (السياحية، الخدمات)، وذلك ما سيفاقم أزمة المالية العمومية، علاوة على تلكؤ الدول والمنظمات المانحة، في ظل هذه الصعوبات التي تعولمت أكثر من أي وقت، تحت وطأة الجائحة.
تتقلص الخيارات المتاحة أمام البلاد، وتجد الحكومة نفسها أمام خياراتٍ أحلاها مرٌّ علقم. سيظل بعضهم يزايد، حين يدعو إلى نسف "الليبرالية المتوحشة"، واتهامها بأنها وراء كل بلاوى العالم. ولكن يبدو أن العقلانية والواقعية تقتضيان التخلي عن هذه الشعارات المتسرّعة، والتحلي بمزيدٍ من الحكمة في معالجة هادئة للوضع الاقتصادي، قبل إفلاس البلاد والانهيار الكبير.
لا تقتضي هذه الوضعية الصعبة اتخاذ إجراءاتٍ أحادية، بقطع النظر عن "عبقرياتها وجدارتها"، بل إجماع وطني يضع مصلحة البلاد فوق كل المصالح الفئوية الضيقة... كلما تعافت البلاد أكثر، ولو بشكل تدريجي، أمكن لها أن تقلص من البطالة التي التهمت عمر شبابها، وأن تردم أخدود الشروخ البائنة بين الفئات والجهات، وأن تقدم أيضا خدماتٍ لائقة لمواطنين، كانت الكرامة عنوان ثورتهم، والحال أن نسبة الفقر المالي سترتفع من 15% إلى ما يناهز 19%.
لا تتوفر للبلاد حلول مريحة أو سهلة، وهذا ما يقتضي مقاربات جريئة، قد لا تخلو من جرعة ألم ما، إذا ما أريد البدء في معالجات جذرية للاقتصاد المريض أصلا، والذي ازدادت علته مع جائحة كورونا. وقد بدأت موجة الاحتجاجات الاجتماعية تتتالى، وبإيقاع لم تعهده تونس، إذ عادة ما يشهد الصيف هدنة اجتماعية، يهرع فيها الناس إلى الشواطئ والمهرجانات وحفلات الزفاف. ولكن يبدو أن كورونا هذه المرّة ستجعل الصيف ساخنا مرتين.