03 اغسطس 2022
عين السلطة اللبنانية على مدّخرات المواطنين
يلتزم اللبنانيون منازلهم منذ أكثر من شهر ونصف الشهر في حجْر صحي، فرضه وباء كورونا اللعين، وتعطل البلد بفعل إقفال المحال التجارية وتوقف أشغال ومصالح كثيرين، غير أن أكثر المتضرّرين هم عشرات لا بل مئات الآلاف من العمال المياومين الذين ليس لهم عقود عمل، ولا ضمان صحي، فكيف لهم أن ينعزلوا في بيوتهم ويعيلوا عائلاتهم من دون عمل أو أي دخل يدرّ عليهم قوتهم اليومي، فإذا كان صحيحاً وضرورياً أن يلتزم الناس بإجراءات الوقاية الصحية، على السلطة في المقابل أن تؤمّن لهم الحدّ الأدنى من مستلزمات الحجْر والصمود. ولأن الدولة على شفير الإفلاس، استمرت الحكومة في المماطلة والمراوغة، إلى أن اضطرت، في النهاية مع انتشار الوباء واشتداد مضاعفاته، إلى تخصيص مساعدة مالية هزيلة، هي أشبه بحسنة لا تسمن ولا تغني من جوع، قيمتها 400 ألف ليرة لبنانية (نحو 133 دولاراً، بعد أن ضاعف هذا الأخير سعره في سوق الصرف مقارنة بسعر الليرة اللبنانية) للعائلات المحتاجة. كيف ومن يحدّد هذه العائلات؟ تمت الاستعانة بلوائح وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع البلديات، وهنا الفضيحة، إذ اضطر الجيش الذي أوكلت إليه مهمة توزيع هذه المساعدات التي تتضمن أيضاً صندوقاً يحوي مواد غدائية وآخر لوازم تعقيمية، إلى وقف التوزيع، عندما اكتشف أن اللوائح أدخلت في بازار المحسوبيات السياسية، ولغمت بأسماء غير مستحقة أو وهمية أو حتى في عداد الموتى!
وهذا غيض من فيض، إذ إن واقع الحال هو أقرب إلى برج بابل، تسوده في الظاهر فوضى
عارمة وإرباك وضياع تجسدهما حكومة مبتدئين، لا تعرف كيف تتصرّف، وأين تضع يديها، ولكن في الحقيقة رئيسها ووزراؤها هم أقرب إلى دمى تتحرّك على مسرح الأحداث الذي تديره القوى السياسية التي اضطرت إلى التراجع والوقوف وراء الكواليس، بفعل ثورة 17 أكتوبر التي أجبرتهم على الانكفاء، وإنما إلى حين، عادت بعدها بقوة إلى الواجهة، بعد أن رضخت لمطلب الشارع بتشكيل حكومة مستقلين وتكنوقراط، تبين سريعاً أنهم ليسوا مستقلين ولا تكنوقراط. ثم جاء الوباء ليجبر الثوار والمنتفضين على مدى أربعة أشهر على العزل المنزلي وإخلاء الساحة مجدّداً للأحزاب ما غيرها، وتحديداً أحزاب "الممانعة" وقواها (حزب الله، التيار الوطني الحر، حركة أمل)، وملحقاتها التي لم يعد لديها أي حرج في إدارة اللعبة والتلاعب بمصير اللبنانيين، على الرغم من كل الفضائح وتهم الفساد التي طاولتها، ونهب المال العام الذي طفا على السطح، بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة والانهيار المالي والإفلاس شبه المحتوم الذي تسبب به ثلاثي السلطة والبنك المركزي والمصارف، في لعبةٍ جهنميةٍ قامت على تسليف المصارف من ودائع اللبنانيين للبنك المركزي، لقاء فوائد عالية، وقام الأخير بتسليف هذه الودائع إلى الدولة، أي السلطة السياسية التي تصرّفت بها ونهبتها، وانتهى جزءٌ كبيرٌ منها في حسابات سياسيين ورجال أعمال مقرّبين منهم في الخارج. والأنكى من ذلك أن هذه الأموال تم تهريبها غداة اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر!
وتقوم المسرحية على أن تدير حكومة المبتدئين أزمة كورونا، من تنظيم إجراء الفحوصات، إلى إدخال المصابين إلى مستشفى حكومي واحد غرب بيروت؛ الوحيد المجهز، على الرغم من الكلام عن تجهيز مستشفيات أخرى، ثم الإشراف على تطبيق ما سميت "التعبئة العامة" بإغلاق المحال والمؤسسات التجارية والتزام حجر منزلي غير إلزامي (؟!) الذي بدأ المواطنون بتطبيقه طوعياً قبل أن تقرّره الحكومة، وأيضاً قرار وزير الداخلية تنظيم السير "مفرد ومجوز".. وذلك كله تهرّباً من إعلان حالة طوارئ صحية بالمعنى الحقيقي والفعلي، وتعويض الناس العاطلين عن العمل، الذين ليس لهم أي دخل يعينهم على البقاء في منازلهم. أما القرارات المهمّة من نوع وضع خطة إنقاذ للتصدّي للأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة وللمديونية العامة التي قفزت في الثلاث سنوات الأخيرة من عهد ميشال عون إلى مائة مليار دولار، فهي من اختصاص السياسيين، وليس التكنوقراط الذين جاء بهم السياسيون أنفسهم. بدأت أولاً أزمة المصارف خلال الثورة، وقبل انتشار فيروس كورونا، والتي تم التعبير عنها بدايةً بإغلاق البنوك لمدة أسبوعين، ثم تقنين السحوبات بالدولار بمعدل مئتي دولار في الأسبوع فقط، وصولاً إلى الإلغاء الكامل وحصر تعاطي المودع، وسحب أمواله، بالليرة اللبنانية فقط، حتى وإن كان حسابه بالدولار، فيما راح سعر هذا الأخير يشد صعوداً في سوق الصرف، حتى بلغ أخيراً ثلاثة آلاف ليرة، بعد أن كانت قيمته 1.500 ليرة، أي تضاعف خلال ثلاثة أشهر فقط، وزادت أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية بمعدل 40% فتبخرت أموال صغار المودعين.
وكانت ثالثة الأثافي بخطة الإصلاح المالي التي طرحها رئيس الحكومة، حسان دياب، والتي كان لها وقع الصاعقة على اللبنانيين. وتقوم الخطة على محاولة تجفيف ما قيمته 83 مليار دولار من أصل الديْن عبر تطبيق ما يسمى hair cut (هير كات)، يقوم على اقتطاع نصف أموال
المودعين الذي قال إنهم ممن يملكون حسابات تفوق مئة ألف دولار، علماً أن هؤلاء يمثلون نسبة كبيرة من اللبنانيين التي تقارب المليون أو أكثر، وكان لافتاً استثناؤه 10% من المودعين الكبار. أي وكأنه يريد أن يدفع اللبنانيين الذين كسبوا مدّخراتهم بعرق جبينهم ثمن الكارثة المالية التي تسببت بها المصارف والمصرف المركزي، خدمة لمصالح الطبقة السياسية. بالإضافة إلى حزمة من الضرائب الجديدة، وفي مقدمها زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 15%. ويحاول دياب بذلك ملاقاة شروط صندوق النقد الدولي الوحيد الذي في وسعه رفد لبنان بتمويلٍ يساهم في انتشاله من الأزمة الحادّة التي يتخبط فيها. هل من المعقول أن دياب لا يدرك خطورة مثل هذا التدبير، أم أنه يرتضي أن يكون كبش محرقة، بعد أن اكتفى بالحصول على لقب "دولة رئيس الحكومة"، وهو الآتي من خارج الطبقة السياسية ونادي رؤساء الحكومة؟
ماذا حصل؟ تدخل رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل، نبيه برّي، ليمتصّ النقمة، معلناً وقوفه إلى جانب الطبقات الشعبية (كذا!) وصغار المودعين رافضاً تطبيق إجراء الـ"هير كات" ومكرّراً السيناريو نفسه الذي مارسه، حين أعلنت الحكومة عزمها على إقرار قانون يفرض تطبيق إجراء الـ "capital control" (الكابيتال كونترول) الذي ينص على الحدّ من قدرة المودع على التصرّف بحسابه وبسحوباته كما يشاء. ويلاقيه في ذلك الشريك الآخر في الحكومة رئيس التيار العوني ووزير الخارجية السابق، جبران باسيل، معلناً رفضه المسّ بودائع اللبنانيين! عجباً، إذا كان طرفان أساسيان في الحكومة يرفضان هذا القرار، فمن هو المايسترو الذي يقف وراء خطوات رئيس الحكومة؟ ولماذا تشن هذا الحملة على حكومة هي صنيعتهم، وعلى حاكم البنك المركزي والمصارف التي هي شريكتهم في هدر المال العام؟ ومن أين ستأتي الأموال لإنقاذ البلد من الغرق، إذا لم يتم التعاون مع صندوق النقد الدولي الذي اتهمه حزب الله بأنه أداة لوصاية دولية، تقف وراءها الولايات المتحدة؟ يبدو أنه سيناريو محكم، يقوده ويشرف عليه حزب الله نفسه الذي يريد أن يضع يده على القرار الاقتصادي والمالي، بعد أن أحكم سيطرته على القرارين السياسي والأمني. وقد أجبر الأمين العام لحزب، حسن نصر الله، حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، على الرضوخ لمطلبه بتحرير حسابات المودعين الصغار، بعد أن استعمل كلاماً قاسياً وشديد اللهجة تجاهه. استوعب سلامة الرسالة، ولكن سلامة نفسه، في المقابل، صانع ومقرّر كل الهندسات المالية التي وضعت في خدمة السياسيين، وكذلك التسهيلات التي قدّمها في الماضي لحزب الله، بحسب مصادر في الخزانة الأميركية. هي إذا مصالح مشتركة؟! ما يريده الفريق الممانع، وفي مقدمته حزب الله، هو التحكّم بالقرار المالي للإمساك لاحقاً بزمام التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي ينتقدونه في العلن، ولكنهم يعرفون أن لا خيار غيره لمحاولة إعادة شريان الحياة إلى الاقتصاد، قبل أن تستفيق الثورة مجدّداً، وتعود إلى الشارع، بعد التغلب على وباء كورونا اللعين.
وتقوم المسرحية على أن تدير حكومة المبتدئين أزمة كورونا، من تنظيم إجراء الفحوصات، إلى إدخال المصابين إلى مستشفى حكومي واحد غرب بيروت؛ الوحيد المجهز، على الرغم من الكلام عن تجهيز مستشفيات أخرى، ثم الإشراف على تطبيق ما سميت "التعبئة العامة" بإغلاق المحال والمؤسسات التجارية والتزام حجر منزلي غير إلزامي (؟!) الذي بدأ المواطنون بتطبيقه طوعياً قبل أن تقرّره الحكومة، وأيضاً قرار وزير الداخلية تنظيم السير "مفرد ومجوز".. وذلك كله تهرّباً من إعلان حالة طوارئ صحية بالمعنى الحقيقي والفعلي، وتعويض الناس العاطلين عن العمل، الذين ليس لهم أي دخل يعينهم على البقاء في منازلهم. أما القرارات المهمّة من نوع وضع خطة إنقاذ للتصدّي للأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة وللمديونية العامة التي قفزت في الثلاث سنوات الأخيرة من عهد ميشال عون إلى مائة مليار دولار، فهي من اختصاص السياسيين، وليس التكنوقراط الذين جاء بهم السياسيون أنفسهم. بدأت أولاً أزمة المصارف خلال الثورة، وقبل انتشار فيروس كورونا، والتي تم التعبير عنها بدايةً بإغلاق البنوك لمدة أسبوعين، ثم تقنين السحوبات بالدولار بمعدل مئتي دولار في الأسبوع فقط، وصولاً إلى الإلغاء الكامل وحصر تعاطي المودع، وسحب أمواله، بالليرة اللبنانية فقط، حتى وإن كان حسابه بالدولار، فيما راح سعر هذا الأخير يشد صعوداً في سوق الصرف، حتى بلغ أخيراً ثلاثة آلاف ليرة، بعد أن كانت قيمته 1.500 ليرة، أي تضاعف خلال ثلاثة أشهر فقط، وزادت أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية بمعدل 40% فتبخرت أموال صغار المودعين.
وكانت ثالثة الأثافي بخطة الإصلاح المالي التي طرحها رئيس الحكومة، حسان دياب، والتي كان لها وقع الصاعقة على اللبنانيين. وتقوم الخطة على محاولة تجفيف ما قيمته 83 مليار دولار من أصل الديْن عبر تطبيق ما يسمى hair cut (هير كات)، يقوم على اقتطاع نصف أموال
ماذا حصل؟ تدخل رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل، نبيه برّي، ليمتصّ النقمة، معلناً وقوفه إلى جانب الطبقات الشعبية (كذا!) وصغار المودعين رافضاً تطبيق إجراء الـ"هير كات" ومكرّراً السيناريو نفسه الذي مارسه، حين أعلنت الحكومة عزمها على إقرار قانون يفرض تطبيق إجراء الـ "capital control" (الكابيتال كونترول) الذي ينص على الحدّ من قدرة المودع على التصرّف بحسابه وبسحوباته كما يشاء. ويلاقيه في ذلك الشريك الآخر في الحكومة رئيس التيار العوني ووزير الخارجية السابق، جبران باسيل، معلناً رفضه المسّ بودائع اللبنانيين! عجباً، إذا كان طرفان أساسيان في الحكومة يرفضان هذا القرار، فمن هو المايسترو الذي يقف وراء خطوات رئيس الحكومة؟ ولماذا تشن هذا الحملة على حكومة هي صنيعتهم، وعلى حاكم البنك المركزي والمصارف التي هي شريكتهم في هدر المال العام؟ ومن أين ستأتي الأموال لإنقاذ البلد من الغرق، إذا لم يتم التعاون مع صندوق النقد الدولي الذي اتهمه حزب الله بأنه أداة لوصاية دولية، تقف وراءها الولايات المتحدة؟ يبدو أنه سيناريو محكم، يقوده ويشرف عليه حزب الله نفسه الذي يريد أن يضع يده على القرار الاقتصادي والمالي، بعد أن أحكم سيطرته على القرارين السياسي والأمني. وقد أجبر الأمين العام لحزب، حسن نصر الله، حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، على الرضوخ لمطلبه بتحرير حسابات المودعين الصغار، بعد أن استعمل كلاماً قاسياً وشديد اللهجة تجاهه. استوعب سلامة الرسالة، ولكن سلامة نفسه، في المقابل، صانع ومقرّر كل الهندسات المالية التي وضعت في خدمة السياسيين، وكذلك التسهيلات التي قدّمها في الماضي لحزب الله، بحسب مصادر في الخزانة الأميركية. هي إذا مصالح مشتركة؟! ما يريده الفريق الممانع، وفي مقدمته حزب الله، هو التحكّم بالقرار المالي للإمساك لاحقاً بزمام التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي ينتقدونه في العلن، ولكنهم يعرفون أن لا خيار غيره لمحاولة إعادة شريان الحياة إلى الاقتصاد، قبل أن تستفيق الثورة مجدّداً، وتعود إلى الشارع، بعد التغلب على وباء كورونا اللعين.