طالبان .. التحدّي القادم

03 مارس 2020

ثلاثة من "طالبان" أثناء توقيع اتفاق الدوحة (29/2/2020/فرانس برس)

+ الخط -
قد ينظر بعضُهم إلى أنّ حركة طالبان، عملياً، كانت الأقرب إلى الانتصار وتحقيق شروطها في الاتفاق الذي وقّعته مع الولايات المتحدة قبل أيام، في الدوحة، بعد جولات طويلة من الحوار، على مدى الأعوام الماضية، وبواسطة ورعاية قطريتين ملحوظتين.
لماذا يميل الاتفاق إلى طرف "طالبان"؟ لأنّ الحركة تجاوزت عن شروط أميركية كانت مثاليةً في البداية، واستطاعت جرّ الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان إلى إعلان الانسحاب الكامل خلال الـ18 شهراً المقبلة، مع التعهد بخفض القوات إلى ما يقارب الـ8600 في غضون قرابة أربعة أشهر، كما تعهد الأميركيون باحترام سيادة أفغانستان، وبعدم التدخل العسكري، في حال نجح الاتفاق. وعلى الطرف المقابل، التزم قادة "طالبان" بالتخلي عن العلاقة مع القاعدة والجماعات المتطرّفة والراديكالية، والدخول في مفاوضات جادّة مع الحكومة الأفغانية، للتوصل إلى سلام في أفغانستان.
بالضرورة، لم يكن هذا الاتفاق ليحدث، لولا أنّ الإدارة الأميركية ومراكز التفكير والقرار في واشنطن أدركت، منذ عشرة أعوام تقريباً، أنّ الانتصار العسكري على حركة طالبان غير ممكن. وهي تمتلك القاعدة الاجتماعية العريضة، من القومية البشتونية، وتحظى بدعم إقليمي مجتمعي وسياسي غير رسمي، بينما تتخبط الحكومات الأفغانية بالخلافات الداخلية، واتهامات الفساد، والعجز عن مواجهة الحركة من دون الدور الأميركي الفعّال.
عملياً، الاتفاق بمثابة استراتيجية خروج للرئيس ترامب، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، 
والانتقال من دور الطرف المقاتل لحركة طالبان إلى وسيط بينها وبين الحكومة الأفغانية الحالية، بعد أن تكبّدت القوات الأميركية والحليفة معها قرابة 3200 قتيل، وما يقارب عشرين ألف جريح، خلال مدة الحرب، بالإضافة إلى عشرات المليارات من الخسائر المالية.
على الرغم من شكوك كبيرة في نجاعة الاتفاق في تحقيق السلام في أفغانستان، وتحذير استراتيجيين كبار، مثل القائد العسكري السابق ديفيد بترايوس، وأنتوني كورديسمان، من خطورة الانسحاب غير المدروس للقوات الأميركية، فإنّ تفضيل ترامب بدا واضحاً لمصلحته الانتخابية، أولاً، وللولايات المتحدة، على المدى القصير، طالما أنّ نتائج الحرب أثبتت أنّه لا أمل بتحقيق نصر إيجابي، بل كلما طال الأمد تمكّنت "طالبان" من تعزيز قدراتها ونفوذها وتكثيف عملياتها ضد قوات الحلفاء.
على صعيد حركة طالبان؛ فإنّ استباق الاتفاق بمقال جريء لنائب أميرها، سراج الدين حقّاني، في صحيفة نيويورك تايمز، يتحدث فيه عن الاتفاق وبنوده، وعن رغبة الحركة في إحلال السلام والوصول إلى اتفاق سلام توافقي، ونظام سياسي يشمل الجميع، يمثل ذلك، بحدّ ذاته، لغة جديدة ومعالم لخطاب مختلف من الحركة، يبدو أنّه يحظى بقبول من الأجنحة الرئيسة فيها (زعيم الحركة هبة الله أخونزاد، وعائلة الملا عمر، والرجل الثاني سراج حقاني قائد شبكة 
حقاني، والملا عبد الغني برادر، الذي فاوض باسم الحركة، وقيادات تاريخية في الحركة صرّحوا بما يفيد بمباركة الاتفاق).
قد لا يبدو التحدّي الحقيقي للحركة من خلال تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان (التابعة لداعش والناشطة في أفغانستان وباكستان)، فعلى الرغم من أنّ هذا التنظيم تمكّن من استقطاب أعداد كبيرة من طالبان باكستان وأفغانستان والقاعدة، وقام بعمليات كبيرة، وسيطر على أراضٍ ومناطق، إلاّ أنّ الجزء الأكبر من الحركة بقي متماسكاً وصلباً أمام الانشقاقات الصغيرة تجاه هذا التنظيم.
كما لا يبدو التحدّي في قطع العلاقة مع القاعدة، واستخدام الأراضي الأفغانية للانطلاق منها ضد المصالح الأميركية، فمن المعروف أنّ ذلك كان شرط الملا عمر على قادة "القاعدة"، منذ البداية، وهو ما لم تلتزم به القيادة، لذلك يحمّل كثيرون داخل "طالبان" "القاعدة" مسؤولية انتهاء حكم الحركة بعد الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على الإمارة 2001. وعلى الأغلب، تفيد المعلومات والتوقعات بأنّ قيادات "القاعدة" يختبئون في المناطق الباكستانية اليوم وليس الأفغانية، ولا تؤوي الحركة علناً أياّ من القيادات العليا المطلوبة للولايات المتحدة 
الأميركية.
إذاً، ما هو التحدّي الأكبر الذي يواجه "طالبان" في الفترة المقبلة؟ هو الحركة نفسها! بمعنى بنيتها الأيديولوجية الصلبة التي تنتمي للمدرسة الديوبندية (ذات الأصول الهندية) وترى في حكم الشريعة (على غرار حكم طالبان التقليدي في أفغانستان 1996-2001)، وتكفر بالديمقراطية وتداول السلطة.. إلخ. تضاف إلى ذلك بنية الحركة الاجتماعية، من عائلات وقبائل وحّدتهم الحرب والالتفاف تحت راية الحركة بصورة صلبة ومتماسكة، فيما تُؤذن التحولات الحالية والقبول بالنظام السياسي الأفغاني، أو بالشراكة فيه، إلى التحوّل نحو منطق المحاصصة والكعكة والمناصب السياسية، ما يحجّم كثيراً من الجانب العقائدي، ويعزّز الجانبين، السياسي والمصلحي.
بقيت "طالبان"، وعلى الرغم من سنوات الحكم السابقة، حركة دينية عسكرية مغلقة، لم يكن لها شريك في الحكم، ولم تتحوّل إلى حزب سياسي، ولم تنتقل إلى نمط الخطاب الواقعي البراغماتي، وهو تحوّل كبير وجوهري، وربما أخطر في مضمونه وجوهره من الحروب التي خاضتها الحركة عسكرياً. وليس هذا التحدّي خاصاً بها، بل لأي حركةٍ تقوم بمثل هذا الانتقال الجوهري في طبيعتها الأيديولوجية وأهدافها وخطابها وتكتيكاتها. هو تحدٍّ كبير وخطير، لكنه ليس مستحيلاً، ويمكن تقديم نماذج عديدة تحوّلت من خطاب ديني وعقائدي وعسكري إلى سياسي وواقعي، مع الحفاظ على هويتها الدينية، بصورة عامة.
وإذا كان الاتفاق، من حيث المبدأ، يثبت شيئاً، فهو أنّ هنالك مساحة وأفقاً حقيقيا لهذا النوع من الحركات للقيام بالتحولات والاستدارات المطلوبة، إن وجدت شروطاً وديناميكياتٍ مساعدةً على ذلك، وربما ما حدث مع جبهة النصرة في سورية، لو قّدر له استكمال البيئة المحيطة الحاضنة، يمثل نموذجاً آخر، وقبل ذلك حركة أحرار الشام، قبل القضاء على قياداتها، وغيرها من حركاتٍ ذات طبيعةٍ أيديولوجيةٍ وحركيةٍ صلبة.
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.