تونس .. ماذا بعد فشل حكومة الجملي في انتزاع ثقة النواب؟

19 يناير 2020

الحبيب الجملي عند تقديمه حكومته أمام البرلمان (10/1/2019/فرانس برس)

+ الخط -
فشل رئيس الحكومة التونسي المكلّف، الحبيب الجملي، في انتزاع حكومته ثقة مجلس نواب الشعب، في الجلسة التي عقدت في 10 كانون الثاني/ يناير 2020، باعتراض أغلبية 134 صوتًا مقابل 72 وتحفّظ ثلاثة أصوات. وتأتي هذه السابقة الدستورية في تاريخ البلاد، بعد شهرين من المشاورات التي أجراها الجملي مع مختلف مكونات المشهد السياسي التونسي، وتخللتها تجاذبات كثيرة. فلماذا فشل الجملي في نيل ثقة المجلس؟ وما تداعيات ذلك على التجربة الديمقراطية التونسية الوليدة؟
حسابات حركة النهضة في ترشيح الجملي
كلف الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، الحبيب الجملي، بتشكيل حكومةٍ جديدةٍ بناءً على اقتراح حركة النهضة؛ بصفتها الحزب الأكبر في مجلس النواب، وفقًا لنتائج الانتخابات التشريعية في أيلول/ سبتمبر 2019، كما ينص عليه الدستور التونسي. ومثّل اختيار حركة النهضة الجملي لتشكيل الحكومة خطوةً غير متوقعة، حتى داخل أطر الحركة نفسها، فمنذ ظهور نتائج الانتخابات، تركّزت التسريبات المتعلقة بالأسماء المتوقع ترشيحها لرئاسة الحكومة على قياديين من الصف الأول في حركة النهضة، على غرار عبد اللطيف المكي وعبد الكريم الهاروني؛ وعلى شخصياتٍ سياسيةٍ مخضرمة، مثل رئيس المجلس التأسيسي ومؤسس حزب التكتل الديمقراطي مصطفى بن جعفر، غير أن أغلبية أعضاء مجلس شورى حركة النهضة، الذي عُقد في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، قرّرت تزكية الجملي. وأكدت الحركة، حينها، "استقلالية شخصية الحبيب الجملي"، وأثنت على "كفاءته وخبراته الاقتصادية والمالية عامة وفي الشأن الفلاحي خاصة"، ووصفته بأنه "شخصية مشهود لها بنظافة اليد والتحمس لخدمة الدولة ومحاربة الفساد والتطلع إلى إحداث نقلة إيجابية في حياة التونسيات والتونسيين".
لا يُعرف عن الجملي، المولود سنة 1959 في ولاية القيروان (محافظة في الجمهورية 
التونسية)، انخراطٌ يذكر في الشأن السياسي، قبل الثورة وبعدها، فقد قضى معظم مسيرته المهنية في مواقع إدارية وتقنية وبحثية في وزارة الفلاحة وهياكلها، ولم يتقلد أي مسؤوليات عليا إلا في كانون الأول/ ديسمبر 2011، حين عُيّن كاتب دولة لدى وزير الفلاحة، وغادرها في كانون الثاني/ يناير 2014. ومنذ ذلك التاريخ، لم يظهر الجملي، ثانية، في المشهد السياسي التونسي إلى حين اقترحته حركة النهضة لتشكيل الحكومة المنبثقة عن الانتخابات التشريعية التي جرت أواخر 2019. وعلى الرغم من أن معظم المبررات التي قدّمتها حركة النهضة في ترويجها لوجاهة تكليف الجملي تمحورت حول شخصيته وكفاءته، فإن التوازنات الداخلية في الحركة والسياق السياسي العام في البلاد كانا من بين أهم محدّدات تكليف الجملي. فعلى المستوى الحركي الداخلي، شهدت مؤسسات الحركة وهيئاتها القيادية تجاذبات وخلافات خرجت، أول مرة، إلى العلن، منذ سنة، وتصاعدت في أثناء تشكيل القوائم الانتخابية، وتواصلت بعد ذلك، وكان آخرها استقالة أمينها العام المساعد زياد العذاري، الذي كان محسوبًا، إلى وقت قريب، على جناح الشيخ راشد الغنوشي، وتصويته ضد منح حكومة الجملي الثقة. وتذهب مؤشرات عدة إلى أن طيفًا من قيادات الحركة التي دفعت في اتجاه تزكية الجملي لتشكيل الحكومة كان يُخشى من أن يكون تكليف شخصية قيادية من داخل الحركة عاملَ توتر جديدًا بين أجنحتها، في وقت تسعى إلى لملمة تناقضات قياداتها واحتوائها داخل أطرها التنظيمية، إلى حين عقد مؤتمرها المقبل المقرر في أيار/ مايو 2020، والذي يتوقع أن يغادر الغنوشي بعده رئاسة الحركة.
من حكومة سياسية إلى حكومة كفاءات
إلى جانب مراعاة حركة النهضة توازناتها الداخلية، لا يسمح وزنها البرلماني لها بأن تمضي في خيار تكليف شخصية من داخلها لتشكيل حكومةٍ يمكنها نيل الثقة، وهو ما ظهر جليًا في 
تصريحات قوى سياسية مختلفة عشية ظهور نتائج الانتخابات. ومنذ تكليفه بتشكيل الحكومة، أعلن الجملي أنه سيكون "منفتحًا على كل القوى السياسية لإعداد برنامج حكم مشترك يخدم الانتظارات المذكورة، بالتنسيق مع كل الأحزاب المتعاونة في ذلك، ومن دون التحفظ عن أي حزبٍ يريد خدمة مصلحة تونس"، موضحًا أن المقياس في اختيار أعضاء فريقه الحكومي هو "الكفاءة والنزاهة مهما كانت انتماءاتهم السياسية". وفي هذا الإطار، عقد الجملي جلسات متعدّدة مع حزب التيار الديمقراطي (22 نائبًا)، وحركة الشعب (16 نائبًا)، وحركة تحيا تونس (14 نائبًا)، وائتلاف الكرامة (21 نائبًا)، إلى جانب حركة النهضة (52 نائبًا)، وشخصيات سياسية وأكاديمية واجتماعية وثقافية، بينما سجّل غياب الحزب الدستوري الحر المحسوب على منظومة الحكم القديمة (17 نائبًا) عن المشاورات؛ بسبب رفضه الجلوس إلى الجملي، بصفته شخصية اقترحتها حركة النهضة. وتضاربت الأنباء في شأن مشاركة حزب قلب تونس (38 نائبًا) الذي يُتابَع رئيسه نبيل القروي قضائيًا بتهم تتعلق بالفساد والتهرب الضريبي، في المشاورات، ففي حين يؤكد حزبَا التيار الديمقراطي وحركة الشعب تواصل الجملي مع نواب وقياديين من الحزب المذكور، للتباحث في شأن مشاركتهم في الحكومة، تنفي حركة النهضة أن تكون المشاورات قد شملته.
تميزت الأسابيع الأربعة الأولى من المشاورات التي أجراها الجملي بتوجّهٍ عام نحو تشكيل حكومة ائتلافية، يمكن أن تتسع لعدد من الأحزاب (حركة النهضة، والتيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وحركة تحيا تونس، وائتلاف الكرامة). وتركّزت مطالب التيار الديمقراطي، أساسًا، 
على منحه حقائب الداخلية والعدل والإصلاح الإداري، ورفض مشاركة شخصيات تحوم حولها شبهات الفساد في الفريق الحكومي. في حين تعلقت شروط حركة الشعب للمشاركة في الحكومة بالحفاظ على القطاع العمومي، والعدول عن خيار خصخصة المؤسسات العامة، والنأي عن الانخراط في المحاور الإقليمية، واستبعاد التكنوقراط. أما ائتلاف الكرامة، فقد تمثل شرطه الرئيس في استثناء المحسوبين على المنظومة القديمة والملاحقين في ملفات فساد.
راوحت مواقف الجملي من مطالب بقية شركاء المشاورات بين القبول والتعديل. وتم الاتفاق مع التيار الديمقراطي على منحه حقيبتَي العدل والإصلاح الإداري، وأن تُمنح شخصية مستقلة يتوافق عليها الطرفان حقيبة الداخلية، بينما ظلت مطالب حركة الشعب وائتلاف الكرامة وحركة تحيا تونس محلّ أخذ وردّ. ومع نهاية الشهر الأول، أعلن التيار الديمقراطي وحركة الشعب انسحابهما من المشاورات، ثم تبعتهما حركة تحيا تونس؛ ليعلن الجملي، إثر ذلك، قرارَه صرف النظر عن مشروع الحكومة الائتلافية والانطلاق في تشكيل فريق حكومي من الكفاءات غير الحزبية.
لم يكن خيار حكومة الكفاءات أيسر على الجملي من خيار الحكومة السياسية، فقد قوبلت شخصيات رشحها لتولي حقائب في الفريق الحكومي المقترح باعتراض عدد من الأحزاب بدعوى عدم الكفاءة، أو الاشتباه بضلوعها في ملفات فساد أو اتهامها بالولاء غير المعلن لحركة النهضة. ولم تصدُر الاعتراضات عن الأحزاب المعارضة للجملي فحسب، بل صدر بعضها عن حركة النهضة، أيضًا؛ حيث طُلب منه، قبل أيامٍ من توجهه إلى مجلس النواب، التخلّي عن
 أسماء واستبدالها بأخرى. وبحلول 10 كانون الثاني/ يناير 2020، تاريخ عرض الفريق الحكومي على المجلس لنيل الثقة، بات واضحًا أن حكومة الجملي أمام احتمالين: إما نيل الثقة بأغلبية بسيطة في حال تمكّنت حركة النهضة من إقناع كتلة حزب قلب تونس بالتصويت لمصلحتها. وفي هذه الحالة، ستكون حكومة محكومة بتوازنات هشّة وغير قادرة على الصمود طويلًا، وإما الفشل في نيل الثقة، وهو ما حصل فعلًا بتصويت أغلب الكتل ضدها.
خيارات الرئيس وحظوظ التكليف الثاني
في حال فشل الحكومة المقترحة في نيل ثقة مجلس النواب، ينص الفصل 89 من الدستور التونسي على أن يجري رئيس الجمهورية "مشاوراتٍ مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر لتشكيل حكومة في أجل أقصاه شهر". وفي حال فشل حكومة التكليف الثاني في نيل ثقة المجلس، يحقّ للرئيس "حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه خمسة وأربعون يومًا وأقصاه تسعون يومًا". وإثر فشل حكومة الجملي، شرع الرئيس سعيّد، مباشرة، في تفعيل ما ينصّ عليه الدستور لمثل هذه الحالات، 
حيث التقى رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب، راشد الغنوشي، وأجرى معه مشاورات في هذا الشأن، مؤكدًا "ضرورة احترام الدستور". ويبدو أن ما جرى خلال المشاورات الطويلة التي خاضها الجملي مع مختلف الفرقاء، من دون الوصول إلى نتيجة إيجابية، إضافة إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي الهش الذي تشهده البلاد، وتصاعد وتيرة الصراع الإقليمي في الجوار الليبي، وتداعياته المحتملة على المشهد الأمني والاجتماعي في تونس، كلها عوامل مجتمعة وضاغطة، دفعت الرئيس سعيّد إلى التعجيل بالمشاورات اللازمة واختصارها. واكتفت رئاسة الجمهورية بتوجيه كتابٍ إلى الأحزاب والائتلافات والكتل البرلمانية تدعوها فيه إلى تقديم مقترحاتها مكتوبة حول الشخصية أو الشخصيات التي ترى أنّها الأقدر على تشكيل حكومة، "مع بيان دواعي هذا الاختيار والمعايير التي تمّ اعتمادها في ذلك". ويُرجح أن يسمي الرئيس شخصية جديدة لتشكيل الحكومة، قبل انتهاء المهلة الدستورية المحددة بـ 20 كانون الثاني/ يناير 2020.
خاتمة
يُعدّ فشل الحبيب الجملي في نيل حكومته المقترحة ثقة مجلس النواب مؤشّرًا على تصاعد حدة الاستقطاب داخل الحياة السياسية التونسية، وعجز الأحزاب، وهي من أعمدة أي ديمقراطية تمثيلية، عن التصرّف وفق هذه الصفة، وتغليب المسؤولية الديمقراطية والوطنية على الخلافات الحزبية. وعلى الرغم من الحرص المعلن الذي أبداه مختلف الفرقاء على احترام المقتضيات الدستورية، فإن فشل المشاورات التي استغرقت شهرين كاملين يعني تراجع سياسة التوافقات في ظل وضع اقتصادي واجتماعي هشّ، يتزامن مع تصاعد مخاطر احتدام الصراع الإقليمي في الجوار الليبي. ومع ذلك، يتوقع أن تلتزم جميع الكتل السياسية مقتضيات العملية الدستورية، وأن تسهم في تسهيل ولادة حكومة جديدة؛ خشية أن تتجه الأمور إلى انتخابات جديدة، لا مصلحة لأحد فيها في الأوضاع الراهنة.