هل يقلب الحريري الطاولة ويستقيل؟

15 يوليو 2019
+ الخط -
يعتبره بعضهم حادثاً (وإنْ دموياً!) مثل غيره من الحوادث التي "اعتاد" عليها لبنان، وآخرون يجزمون بأن ما حصل هو لعب على حافة الهاوية، إذ ليس في كل مرة تسلم الجرّة! وفريق ثالث يشمت قائلاً إن هذا هو لبنان، وما يقال عن بلد الحرية والتعدّد والتنوع والتعايش الطائفي ما هو إلا نكتة سمجة.. في مطلق الأحوال، الاشتباك الذي حصل الأسبوع الماضي في قرية قبرشمون قضاء عاليه، ضمن محافظة جبل لبنان، ووقع ضحيته شابان من الطائفة الدرزية ما زال يوتّر الأجواء ويشحن النفوس، كما أن رعونة بعض الصبية في السياسة، وخطابات التحدي السياسي والمذهبي لا حدود لها، تساهم في صب الزيت على النار. بدا الاحتكاك كأنه محاولة لإشعال فتنة داخل الطائفة الدرزية، بدفعٍ من أطراف محلية وخارجية، تعمل، منذ فترة، على تحجيم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، وعزله، وتأجيج الخلاف بينه وبين خصمه الدرزي الآخر طلال أرسلان. حصل الصدام المسلح على خلفية الجولة التي قرّر القيام بها إلى قضاء عاليه وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر (العوني) جبران باسيل، حليف أرسلان، الذي دأب أخيراً على القيام بجولاتٍ في مختلف المحافظات، مطلقاً العنان لخطابات التحدّي والاستفزاز والشحن الطائفي، مكرّراً شعاره التعبوي المفضل "استعادة حقوق المسيحيين" التي يعتبر أن المسلمين قد انتزعوها منهم. وقد سبقت هذه الجولة زيارة إلى البقاع، حيث التقى حشداً من أهالي المنطقة (معظمهم من المسلمين)، وقال إمامهم إن "الإسلام 
السياسي قد صعد إلى السلطة على جثة المارونية السياسية، وسنستعيد حقوقنا منهم".
وبدل أن يسعى إلى تهدئة النفوس، نظراً لتركيبة الجبل الديموغرافية الحساسة التي تضم الموارنة والدروز الذين عاشوا أصناف الحروب والمجازر نحو قرنين، من مجازر 1860 انتهاء بحروب الجبل عام 1983، مروراً باغتيال كمال جنبلاط عام 1976 والمجازر التي ارتكبت على إثرها ضد المسيحيين، انبرى باسيل، في أول محطة له، ينكأ الجراح، مسترجعاً المعارك التي خاضها رئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون، في الثمانينيات، عندما كان قائداً للجيش في المواجهات ضد قوات جنبلاط والدروز الذين كانوا يعتبرون عون يومها قائد مليشيا، مغتصباً للسلطة، وليس قائداً للجيش، ومنحازاً إلى جانب معسكر اليمين المسيحي خلال الحرب الأهلية. غير أن عون كان في حينه يستعمل الجيش لأهدافه الشخصية، سعياً وراء طموحه الرئاسي الجامح، فكان مرة يقاتل جنبلاط، ويتقرّب من النظام السوري، وأخرى يعلن "حرب تحرير" ضد الجيش السوري، ثم يستدير ليشن "حرب إلغاء" ضد "القوات اللبنانية"!
وهذا ما يقوم به عملياً اليوم صهره باسيل، لفرض نفسه رئيساً، خلفاً لِحَميه عون، متكلاً على غطاء حزب الله، ومستعملاً سلاح التحريض الطائفي والتجييش المذهبي (ضد السنة فقط بطبيعة الحال)، ومستقوياً بالسلطة وبأجهزتها الأمنية. علماً أن مصالحة كبرى قد تمت في الجبل عام 2001، برعاية البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير الذي أطلق شرارة الانتفاضة من أجل إخراج القوات السورية من لبنان. مصالحة ليس التيار العوني شريكاً فيها، لأنه لم يكن قد أصبح يومها طرفاً فاعلاً على الأرض، وما يريده باسيل هو إثبات أن المصالحة التي أرساها البطريرك صفير وجنبلاط فاشلة، أو على الأقل ناقصة، وهو اليوم القادر على أن ينجز مصالحة حقيقية، يكون هو الطرف الأساسي فيها، وليس جنبلاط، ليكرس نفسه وتياره طرفاً أساسياً في الجبل في مواجهة جنبلاط. تحرّك باسيل صعوداً إلى بلدات درزية في قضاء عاليه، يرافقه وزير الدفاع ووزير شؤون النازحين، بحماية نحو خمسمائة جندي من لواء الحرس الجمهوري، وكأنه ذاهب إلى حرب. استفزاز مضاعف دفع مناصري جنبلاط إلى قطع الطريق، ومنعه من الوصول إلى البلدة التي يريد، فاقتحم وزير شؤون النازحين (درزي) 
الحاجز، وبدأ إطلاق النار ببن الطرفين، وسقط اثنان من مرافقي الوزير. هل كان الأمر مدبراً ومخططاً له؟ يجزم أرسلان بذلك، مؤكداً أن ما جرى كان كميناً لاغتيال وزير شؤون النازحين المحسوب عليه، وجنبلاط ينفي موجهاً أصابع الاتهام للنظام السوري الذي يعمل على محاصرته وعزله، ويعتبر أن أرسلان وباسيل مجرد أداتين في يد بشار الأسد. يريد باسيل أن يصبح رئيساً للجمهورية، ويطمح أرسلان إلى تصدر الزعامة الدرزية. وقد بدأ هذا المخطط فعلياً عشية الانتخابات البرلمانية التي تم وضع قانون انتخابي لها، بهدف تحجيم كل خصوم سورية والسلطة الجديدة التي تمت إعادة تركيبها وتقاسمها عبر التسوية - الصفقة التي عُقدت في نهاية 2016 بين عون وحزب الله وسعد الحريري.
وقد تحقق تحجيم جنبلاط جزئياً، إذ لم يخسر سوى مقعدين من المقاعد النيابية التي كانت تضمها كتلته، في حين حصلت لائحة العونيين وأرسلان معاً في الجبل على أربعة مقاعد فقط من أصل ثلاثة عشر، علماً أن جنبلاط دأب، منذ عدة دورات انتخابية، على ترك مقعد فارغ لغريمه أرسلان حفاظاً على السلم الأهلي، والعلاقات الطيبة بين الدروز في الجبل، فاستمرت الضغوط على الزعيم الدرزي الذي لم يكن شريكاً أساسياً في التسوية، وإنما التحق بها، وانتخب عون رئيساً، ظناً منه أن الأخير سيفتح صفحة جديدة معه. وعند تشكيل الحكومة الحالية، تم تحجيم تمثيل الحزب الاشتراكي من أجل إعطاء وزير لأرسلان من الحصة الدرزية. ثم بدأت تتوالى لاحقاً الاستفزازات والأحداث في الجبل، مرة عبر أرسلان وأخرى عبر وئام وهاب، الحليف الآخر للنظام السوري. وقبل أيام من حصول اشتباك قبرشمون،
، من أجل إثارة نقمة على جنبلاط.
ولكن المواجهة لم تنته عند هذا الحد، إذ قرّر الفريق العوني، بقيادة باسيل، مطالبة الحكومة بإحالة حادثة قبرشمون على المجلس العدلي، وهو هيئة قضائية استثنائية، يناط بها النظر في الجرائم التي لها صفة الاعتداء على أمن الدولة، وتعريض السلم الأهلي للخطر، وأحكامها مبرمة لا مجال فيها للاستئناف أو التمييز. وبما أن جنبلاط حالياً ليس نائباً، بعد أن تخلى عن مقعده لنجله، فهو بالتالي لا يتمتع بأي حصانة، ويمكن استدعاؤه للتحقيق، وحتى توقيفه، إذا رأت المحكمة ذلك. وهذا التحدّي الذي أطلقه باسيل ليس المقصود به جنبلاط فقط، وإنما أيضاً رئيس الحكومة، سعد الحريري الذي يقف حائراً بين الوقوف إلى جانب حليفه السابق في قوى 14 آذار أو التزام شروط التسوية – الصفقة، والحفاظ على ما حققه من مكاسب ومشاريع وصفقات. إحراج الحريري، والسعي إلى تحجيمه، يتقدّمان على مسألة تحجيم جنبلاط، فهو رئيس الحكومة والزعيم السني الأول الذي لا بديل له في هذه المرحلة. لم يعد الأوحد، بعد أن فرض حزب الله تمثيلاً لمجموعة صغيرة من النواب السنة في الحكومة، ولكنه يبقى حاجة حزب الله نفسه في هذا الظرف الدولي الضاغط على إيران. كما أنه للمفارقة حاجة أيضاً لباسيل، كي يستمر في خطابه الشعبوي، وحملته على السنة "سالبي حقوق المسيحيين" أو ... "داعشيين"، ليشد عصب جمهوره، من دون أن يتمكّن الحريري من الوقوف في وجهه. ولكي يستمر باسيل أيضاً في حملته العنصرية المقيتة ضد النازحين السوريين وضد الفلسطينيين الذين برأيه يتميز اللبنانيون عنهم بـ "جينات لبنانية خالصة"؟!
طلب الإحالة على المجلس العدلي رد عليه الحريري بعدم عقد جلسة لمجلس الوزراء، ولكن إلى متى؟ فإذا أصر "محور الممانعة" داخل الحكومة على طلبه فماذا يفعل؟ المواجهة لم تعد فقط مع جنبلاط، بل تطورت وتوسعت بوقوف رئيس المجلس نبيه بري إلى جانب جنبلاط، ورفضه طلب المجلس العدلي، ورفضه أيضاً عرض الأمر للتصويت في مجلس الوزراء، وكذلك حزب القوات اللبنانية، فهل يتجرأ الحريري على قلب الطاولة والاستقالة؟
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.