الانتخابات الرئاسية الموريتانية: هل ضاعت فرصة أخرى للتحول الديمقراطي؟

27 يونيو 2019

موريتاني يقترع في نواكشوط بالانتخابات الرئاسية (22/6/2019/فرانس برس)

+ الخط -
شهدت موريتانيا يوم 22 حزيران/ يونيو 2019 انتخاباتٍ رئاسيةِ تعددية، فاز فيها مرشح الحزب الحاكم، محمد ولد الغزواني الذي حصد الأغلبية المطلقة في الجولة الأولى، بخلاف ما توقعته استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات. وهذه المرة الأولى التي يجري فيها تداول سلمي على السلطة في بلد شهد عددًا من الانقلابات العسكرية في الفترة 1978 - 2008.

وقد مثّلت سنة 2007 المحطّة الرئيسة في الانتقال الديمقراطي الموريتاني بوصول أول رئيس مدني منتخب للحكم، لكن انقلاب السادس من آب/ أغسطس 2008 الذي قاده الرئيس المنتهية ولايته، محمد ولد عبد العزيز، أجهض التجربة، بيد أن المعارضة الموريتانية مدعومةً بمواقف الاتحاد الأفريقي وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، استطاعت أن تفرض على الانقلابيين الدخول في تسوياتٍ تكللت باتفاق داكار الذي وضع أسس العودة إلى المسار الديمقراطي، فأُجريت انتخابات رئاسية في عامي 2009 و2014 فاز بهما الرئيس ولد عبد العزيز. وتعد الانتخابات الأخيرة، الثالثة التي تجري بعد الاتفاق.
دلالات النتائج وأسباب فوز مرشّح النظام

وصلت نسبة المشاركة في الانتخابات إلى 62.66%. وهي نسبة معتبرة، مقارنة بنسبة المشاركة في انتخابات 2014 الرئاسية، والتي كانت في حدود 56.46%. حصل محمد ولد الغزواني على نسبة 52.01%. ويدل فوزه من الجولة الأولى على قوة التحالف الذي دعمه، والمتمثل بالسلطة والقبيلة والجماعات الصوفية. ويعد ولد الغزواني تجسيدًا عمليًا لتلاقي مصالح ذلك المثلّث، فهو الرجل الثاني في النظام، من خلال قيادته الجيش ووزارة الدفاع، وشارك في الانقلاب العسكري مع الرئيس المنتهية ولايته، وينتمي إلى أسرةٍ دينيةٍ، ذات ارتباطات تاريخية بالطرق الصوفية في موريتانيا، هذا فضلًا عن انتمائه جهوًيا إلى الشرق الموريتاني الذي يضم غالبية السكان. وقد لوحظ، خلال هذه الانتخابات، تراجع تأثير "المال السياسي" ودور رجال الأعمال، وهو ما أشار إليه الرئيس المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز بالقول: "إن الدولة باتت أقوى من رجال الأعمال". ويعود ذلك إلى الصدام الذي حصل بين ولد عبد العزيز، وأهم داعميه الماليين في عام 2009؛ رجل الأعمال المنفي، محمد ولد بوعماتو، الذي يَتهم إلى جانب قطاع عريض من رجال الأعمال النظام بالسعي إلى تكوين طبقة منتفعين جديدة مرتبطة به.

أما الوزير الأول السابق ومرشح المعارضة، سيدي محمد ولد بوبكر، الذي تلقى دعمًا من

التيار الإسلامي، ممثلًا بحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل)، فقد حل في المركز الثالث بنسبة 17.87% من الأصوات. وتمثلت المفاجأة بفوز المرشح الحقوقي، بيرام ولد الداه اعبيد، بالمركز الثاني، بإحرازه أكثر من 172 ألف صوت، أي 18.58% من الأصوات، واستطاع التفوق على الرئيس المنتخب، ولد الغزواني، في العاصمة الاقتصادية نواذيبو؛ ما يعني أن الخطاب الحقوقي الخاص بمظالم فئات اجتماعية معيّنة، أبرزها الحراطون، أي الأرقّاء السابقون الذين يُشكلون غالبية سكانية، كان عاملًا في هذه الانتخابات، وإن كان بعضهم يرى في النتائج التي حققها بيرام فرزًا لونيًا بدأ يتطور ويُشكّل خطرًا على الجماعة الوطنية الموريتانية وتجربتها الديمقراطية، بحيث أصبحت النزعة اللونية أو العرقية تضاهي في فاعليتها دور النزعة القبلية.

ويستدل بعضهم في تأكيدهم هذه المخاوف بالنسبة الضعيفة التي حظي بها المرشّح محمد سيدي مولود (2.44%) الذي يُعد وجهًا تقدميًا وصاحب تجربة سياسية ثرية بمقارعة الأحكام العسكرية المتوالية منذ السبعينيات، هذا فضلًا عن كونه مرشحًا لأعرق حزبين معارضين، تكتل القوى الديمقراطية الذي يرأسه أحمد ولد داداه، الزعيم التاريخي للمعارضة الموريتانية، واتحاد قوى التقدم، وريث حركة الكادحين الموريتانيين التي نشطت بقوة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. وبناء عليه، يمكن القول إن أحزاب المعارضة الموريتانية التقليدية ووجوهها البارزة بدأت قوتها تتلاشى، مع صعود قوى سياسية جديدة، تمثلها أساسًا حركاتٌ حقوقيةٌ ذات خطاب راديكالي، تعتبر مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية "إيرا" التي يرأسها بيرام ولد الداه اعبيد، ممثلها الأبرز، إضافة إلى التيار الإسلامي، ممثلًا بـ "تواصل" الذي حل تحالفه في المكان الثالث.
انعكاسات النتائج

من الأمور التي تُحسب للنظام الحالي سماحه بمستوى مقبولٍ من الحريات السياسية والإعلامية، لكنه لا يتردد في استخدام وسائل القمع عندما يجد حاجةً إليها، كما حصل عقب إعلان نتائج الانتخابات من إنزال قوات عسكرية وشبه عسكرية إلى شوارع العاصمة نواكشوط، واعتقال بعض المحتجين على النتائج، تحت طائلة ما أسمته السلطات القيام بأعمال تخريبية. كما تم اقتحام مقارّ أحزاب المعارضة وإغلاقها لاحقًا. وتؤكد هذه الإجراءات محافظة النظام على نهج القمع في التعامل مع الأزمات السياسية، والاعتماد على المقاربة الأمنية في تسويتها.

من المبكر الحكم على ما إذا كان الرئيس ولد الغزواني سيعمد إلى إحداث تغييراتٍ جذرية في بنية النظام وسط خلافٍ على تقييمه بين من يرى أنه سيستمر في نهج سلفه وزميله، ولد عبد العزيز، ومن يرى أنه يتمتع بقوة الشخصية اللازمة لخط نهجه الخاص به، على الرغم من أن الرئيس المنتخب حرص على استخدام لهجة تصالحية في خطاب حملته الانتخابية، خلاف لهجة سلفه وأسلوبه، وإن كانت أكثر التخوفات تعود إلى كونه شريكًا في الانقلابات العسكرية السابقة، وأنه عمليًا مرشّح المؤسسة العسكرية التي يحتل رأس الهرم فيها.

على مستوى علاقات موريتانيا الخارجية، لا يُتوقع أن تؤثر نتائج الانتخابات كثيرًا فيها.

تاريخيًا، حرصت موريتانيا على النأي بنفسها عن اصطفافات المحاور في إقليمها، ويعود ذلك إلى تجربة حرب الصحراء التي كبّدت موريتانيا خسائرَ كبيرة، بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به، والذي جعل بعض كتائب جبهة بوليساريو تصل إلى العاصمة نواكشوط. من حينها، اتبعت موريتانيا سياسة خارجية متوازنة، حاولت من خلالها القيام بدور الوسيط في النزاعات، والنأي عن أن تكون طرفًا فيها، إلا ما كان من أزمة نهاية الثمانينيات مع السنغال، بسبب اتهام موريتانيا السنغال بدعم انقلاب عسكري قاده ضبّاط من الزنوج الموريتانيين.

ولكن فترة حكم ولد عبد العزيز اتسمت بالمزاوجة بين سياسة خارجية صدامية إلى حد ما وسياسة تدخّلية قائمة على الوساطة لنيل الاعتراف والفاعلية الدبلوماسية، وتبيّن ذلك جليًا خلال الأزمة التي وقعت مع المغرب، والانحياز إلى خيارات الجزائر في بعض الأحيان، وتدخّل موريتانيا وسيطًا في عدة ملفات إقليمية. ولكن أزمة حصار قطر مثّلت ذروة انخراط موريتانيا في سياسة المحاور، إثر قرارها قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر، والانسجام شبه الكامل مع رؤية دول الحصار، ومن بين كل دول الإقليم التي اتخذت موقفًا منحازًا إلى ثلاثي حصار قطر، وحدها موريتانيا حافظت على موقفها المنحاز. بل إن الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، في آخر مؤتمر صحفي له عشية الانتخابات الرئاسية، عاد وشدد على عدائه قطر، قائلًا إنه كان يريد أن يقطع العلاقات معها بعد الربيع العربي مباشرة. بدا ولد عبد العزيز، في مقابلته الأخيرة، كأنه يريد تحميل تركته السياسية لخلفه ولد الغزواني الذي تربطه به علاقاتٌ قوية بولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. وبناء عليه، من المتوقع أن يستمر الموقف الموريتاني الداعم للمحور السعودي الإماراتي.
موقع ولد عبد العزيز بعد الانتخابات

حضر ولد عبد العزيز بقوة في حملة ولد الغزواني الانتخابية، وأعلن أنه من يقف وراء ترشيحه. ولكن بقدر ما شكّل دعم ولد عبد العزيز عامل قوة للغزواني نظرًا إلى موقعه في الحكم، فقد أربكه، خصوصا في حملته الانتخابية، حيث بدا ولد الغزواني حارسًا لإرث ولد عبد العزيز أكثر منه صاحب مشروعٍ يخاطب جماهيرَ متعطشة للتغيير والتحديث، مع إقبال موريتانيا على عصر الطاقة والغاز، والذي يأمل كثيرون أن يؤدي إلى تغيير الواقع الصعب الذي تعكسه نسبتَا البطالة والفقر المرتفعتان. لم يخْف ولد عبد العزيز نيته البقاء في المشهد السياسي، ولكن ليس رئيسًا للحكومة، بل ربما، من خلال رئاسته حزب الاتحاد من أجل الجمهورية (الحاكم)، كما أشار هو إلى ذلك في مقابلته الأخيرة، وكان قبلها قد أدلى بتصريحٍ، في مدينة روصو (جنوب موريتانيا)، إنه سيتابع مشاريع الدولة من داخل القصر ومن خارجه، وهو ما أوّله بعضهم بأنه يسعى إلى القيام بدور الوصاية على حاكم موريتانيا الجديد، في ضوء أقاويل عن تورّط ولد عبد العزيز في ملفات فسادٍ تستدعي بقاءه في المشهد، خوفًا من التعرّض للمحاسبة أو المساءلة القانونية.
موقف المؤسسة العسكرية

ما زالت المؤسسة العسكرية تحتفظ بالموقع الأهم في المشهد السياسي في موريتانيا، في ضوء توافق قادتها على دعم الرئيس الجديد، الذي يعد ممثلًا خالصًا لها. وقد سُجّل حضور بعض

وجوهها البارزين في حملة ولد الغزواني الانتخابية. ولكن حيادها الشكلي في التأثير في الانتخابات، خصوصا مع السماح للعسكريين والأمنيين بالاقتراع مع المدنيين في يوم واحد، عكس ما كان معمولًا به في السابق، يعدّ موقفًا دالًّا على نوع من الاطمئنان إلى سيطرتها على الوضع، ولم يتعرّض موقف المؤسسة العسكرية لاختبار حقيقي من موقفها من الديمقراطية ونقل السلطة سلميًا، باعتبار أن السلطة يجري تداولها بين ضباط سابقين، يعبّرون عن مصالحها، ومن غير المعروف ما سيكون عليه موقف الجيش، فيما لو فاز مرشّح غير مرشحها.
الموقفان الداخل والخارجي

أجمع مرشحو المعارضة على رفض نتائج الانتخابات، لأسباب متعدّدة. وبحسب بيان وقّعه رباعي المعارضة المشارك في الانتخابات، فإنه يستحيل، في ضوء النتائج التي في حوزتهم، فوز أي من المرشحين في الشوط الأول. ولذلك قرروا خوض نضال سلمي لحماية ما أسموها الخيارات والمكاسب الديمقراطية. وبالفعل، دعا المرشحون الأربعة أنصارهم إلى النزول إلى الشارع والاحتجاج، قبل أن يؤجّلوا موعد مسيرتهم الاحتجاجية إلى الخميس 27 حزيران/ يونيو 2019 بعد استدعاء وزير الداخلية لهم بشكل مفاجئ، واندلاع أعمال شغب في العاصمة نواكشوط، وانتشار الأمن، وتطويقه أهم الأماكن التي انطلقت منها الاحتجاجات، عشية إعلان النتائج. وقد اتخذت السلطات الموريتانية إجراءاتٍ أمنيةً إضافيةً مشدّدة؛ منها قطع الإنترنت قطعًا كاملًا، واقتحام المقارّ الحزبية لمرشحي المعارضة، وإغلاقها لاحقًا. إضافة إلى أن وزارة الداخلية أصدرت بيانًا، حذّرت فيه من الاحتجاج، قبل أن يخرج وزير الداخلية نفسه في مؤتمر صحفي، قال فيه إن الاحتجاجات مكيدة، تقف خلفها أيادٍ أجنبية. وفي هذا الصدد، استدعت الخارجية الموريتانية كلًا من سفراء مالي والسنغال والغابون على خلفية أعمال الشغب التي قالت موريتانيا إن أجانب شاركوا فيها. ويعيد استدعاء سفراء هذه البلدان إلى الأذهان محاولة رسم خريطة عرقية للأزمة السياسية التي تلوح في الأفق.

دفع هذا الأمر أطرافا دولية إلى اتخاذ مواقف بعضها مؤيد وبعضها الآخر متوجس من نُذر أزمة محتملة؛ حيث دعت سفارة الولايات المتحدة في نواكشوط إلى "احترام حرية التعبير والتجمع باعتبارهما ضرورة للديمقراطية"، ودعت أطراف العملية أيضًا إلى "المشاركة في

حوار سلمي في فترة ما بعد الانتخابات". وتدخلت الأمم المتحدة للحيلولة دون استفحال الأزمة، عبر لقاءات قام بها المبعوث الخاص للأمين العام إلى غرب أفريقيا، مع قادة المعارضة، والرئيس المنتخب ولد الغزواني، لكنه لم يكشف عن معلوماتٍ بخصوص ما تداوله مع المرشحين، إلا ما كان من حثّهم على الهدوء والابتعاد عن العنف، وترك المسار الانتخابي يتواصل حتى نهايته. في حين غاب أيّ موقف فرنسي مما يجري، على الرغم من المصالح الإستراتيجية لفرنسا في موريتانيا، وعلى الرغم من اقتحام محتجين السفارة الموريتانية في باريس. أما المواقف الدولية المؤيدة لنتائج الانتخابات، فأهمها عربيًا الموقف الإماراتي، حيث بادر ولي عهد أبوظبي إلى الاتصال بولد الغزواني بحسب ما أعلن عنه الحساب الرسمي لمحمد بن زايد على "تويتر"، كما أرسل ملك المغرب، محمد السادس، برقية تهنئة لولد الغزواني، ليكون ثاني قائد عربي يقوم بذلك في ضوء ما شهدته العلاقات الموريتانية المغربية من توتر. أما أوروبيًا فكانت إسبانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي أشادت بالانتخابات، ووصفتها بأنها "تمثل انتقالًا دستوريًا على أعلى هرم السلطة في هذا البلد".
خاتمة

تمثّل الانتخابات فرصة لانتقال ديمقراطي حقيقي. ولكن من الصعب أن تتحقق هذه الفرصة، في ضوء إصرار المؤسسة العسكرية على القيام بدور سياسي، يتمثل بالتحكّم في نتائجها، ورفض القوى المدنية ذلك. ويعيد المأزق الحالي إلى الذاكرة مأزق عام 2008 بعد إطاحة أول رئيس مدني منتخب، مع فارق أنه في الحالة الأولى كنا أمام انقلاب عسكري على رئيس مدني منتخب، أما في الثانية فيجري تداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع بين ضباط في المؤسسة العسكرية، فهل يدفع ضغط الأزمة مع الموقف الدولي إلى تسويةٍ سياسيةٍ تحقق نوعًا من الشراكة في السلطة في موريتانيا؟ أم إن نهج الأحادية، وتبني خيارات أمنية وإقصائية سيستمر، على الرغم من الضريبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتكبدها البلاد؟