السودان.. إلى إعادة التوازن الخارجي

21 مايو 2019
+ الخط -
(1)
لا يغفل أيّ مراقب عن ملاحظة ما يعتري منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من ارتفاع حرارة الأزمات فيها، ومن تعدّد التوجّهات التي تصطرع القوى السياسية حولها، على اختلاف درجات تأثيرها وتأثرها. من بين أطراف دولية هنا وهناك، من يؤجّج نيران الفتن بين العقائد ويدمغ مقاومة الظلم بخاتم الإرهاب الدولي، ثم يأتينا من يدّعي أنه يملك مفاتيح العصر، ليحل الأمان بين ظهرانينا، وهو ساعٍ بجدٍ لتحقيق مصالح تخصّه وحده. المنطقة التي شهدت وتشهد صراعات وحروبات، تدفع أثمانها الشعوب، لا قياداتها. طغيان القيادات وجنوحها إلى الاستبداد المطلق هما آفة المنطقة. من ثار منهم في موسم ربيعه، عاد الخريف يحاربهم.
(2)
يقولون ما ضاقت بلاد بأهلها، وإنك لترى جموعا من كهول وشباب ومن نساء وأطفال، يتنكبون سبل الهروب، براً وجواً وبحراً، سعياً إلى ملاذاتٍ تأخذهم إلى أمانٍ بعيد المنال في القصي من الأرض. ذلك الحال في الشام وفي ليبيا وفي اليمن، حيث كتب لشعوبها أن تتنفس دخان الحرائق في هروبها الطويل، إن كتبت لها الحياة، أو الموت برصاص القناصة، أو تحت دهس المجنزرات، وقد ضاقت الأرض بهم. ثمّة متآمرون وثمّة متفرّجون وثمّة من لا يبالون بالوقائع. وفوق ذلك وقبله، تلوح نذر صراعٍ يخرج إلى العلن بين سنة وشيعة.
هذه هي الصورة البائسة التي عليها المنطقة، ويندلع ربيع عربي أفريقي في السودان وفي الجزائر، فهل يغشى الموسمين خريفٌ قادم؟
(3)
فيما ظلت الجزائر بعيدة نسبيا عن سخونة الصراع الدائر بين أطرافٍ عربية مهمة، والجمهورية الإسلامية في إيران، نجد السودان، وتحت حكم عمر البشير المباد، قد تورّط في 
حلف يقاتل الحوثيين في اليمن، فاضطر نظامه لمقاطعة إيران من جهة، ودفع فصائل من قواته النظامية إلى القتال في اليمن من جهة أخرى. لعل الخراب الذي وقع في شبكة علاقات السودان الخارجية، لم يكن بين أوضح المطلوبات التي نادت بها ثورة السودانيين، إلا أن تصريحا لنائب رئيس المجلس العسكري الذي انحاز إلى الثوار، أصدر تصريحا، بدا لحظتها مجانيا، يؤكّد التزام السودان ببقاء قواته في اليمن، تزامن ذلك التصريح مع إعلان كل من السعودية والإمارات نيتهما تقديم دعم مالي سخي للسودان.
(4)
ولكن لم يكن السودانيون، وبمختلف مشاربهم، يؤيدون تورّط بلادهم في حربٍ لا مصلحة مباشرة لهم في خوضها. ليس فيها غير خسرانٍ أودى بالصورة الزاهية للسودان، ذلك الشقيق التاريخي لليمن الذي ساهم في إيقاف نزيف حربٍ طحنت اليمن، أوائل ستينيات القرن الماضي. لم يكن لتصريح مسؤول المجلس العسكري، قبل بضعة أيام من انتصار الثورة السودانية، من صدى واسع لدى من تلقاه. في حقيقة الأمر، لن تكون العلاقات الخارجية، وملفاتها الشائكة، من مسؤوليات المجلس العسكري الآنية، بل الأنسب ترك تفاصيله للقيادة التي تتولاه، فور انتقال السلطة لتأخذ شكلها المدني.
(5)
بحكم انتمائه، والذي تكاد تتطابق فيه الدائرة العربية مع الدائرة الأفريقية، للسودان موقع استراتيجي فريد في وسط الدائرتين، بما يؤهله تاريخياً وجغرافياً، لأن يتبوأ ذلك الموقع عن جدارة. ليس للسودان أن ينجرّ إلى الوقوع في فخاخ الأحلاف السياسية، أو العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد تخبّط نظام البشير المباد في مفاسد سياسية واقتصادية في الداخل، أدار بصره المعطوب إلى الخارج، فصار يتسوّل بلداناً شقيقة وصديقة، طلبا للمساعدة والدعم، باسم الدبلوماسية الرئاسية. وتلك آليةٌ ابتدعها الرئيس السابق، لتجاوز دور الدبلوماسية التقليدية في وزارة الخارجية، والتي أوهن عودَها بسياسة تمكين الموالين له في مفاصل وزارة الخارجية.
(6)
أعقد الملفات التي تنتظر الحكومة المدنية القادمة في السودان هي ملفات العلاقات الخارجية، والتي تتصل مباشرة بالصورة التي سجلها المجتمع الدولي في مخيلته عن السودان. منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، وحتى لحظة سقوطه في إبريل/ نيسان 2019، يعدّ نظام البشير العليل المسؤول الأول عن التهم التي وجّهها المجتمع الدولي لنظامه، من رعايةٍ للإرهاب الدولي، ومن تطرّفٍ جرّ إليه عداء جيرانه، الأقربين والأبعدين. يضاف إلى ذلك سوء إدارة البلاد، فكانت أسوأ تجلياتها إدارة حرب إبادة في دارفور. كان حصاد تلك السياسة عقوبات فرضها المجتمع الدولي، وعقوبات جماعية وثنائية، تركت السودان في عزلته غير المجيدة، ضائعاً كالأجرب بين الأصحاء.
على حكومة الثورة الجديدة في السودان العبور بالبلاد إلى تصالح داخلي. ولكن أيضا إلى تصالح مع المجتمع الدولي.