مغالطات "القضية الكردية في سورية"

21 أكتوبر 2019
+ الخط -
تتّجه السردية الكردية في سورية، ومنذ غزو العراق سنة 2003 تحديداً، نحو تناول موضوع الوجود الكردي في سورية ومستقبله بوصفه "قضية كرديّة في سورية"، وهذا وصف يحتمل عدة مغالطات سياسية وتاريخية وجغرافية، إذ إن القضيّة، من المنظور السياسي، تكون عادة قضية أرض وشعب، أي شعب يعيش على أرضه، تعرّض لظرف تاريخي معين، تمثل بغزو أو احتلال، أدى إلى تهجيره وتشريده، وبات الغزاة الجدد يفرضون سيطرتهم وسيادتهم على السكان الأصليين الذين يتم حرمانهم من حقوقهم السيادية، ويقمعون أي محاولاتٍ نضاليةٍ لنيل حريتهم، وبالتالي يبقى الشعب في حالة نضال إلى أن تزول عوامل التغيير الخارجية والطارئة التي ساهمت في نشوء قضيته. ينطبق هذا الوصف على القضية الفلسطينية مثلاً، ولا ينطبق، بأي شكل، على الواقع الكردي في سورية، لا من حيث وجود اضطهاد عرقي ضد الأكراد في سورية، إذ إن جميع أبناء الشعب السوري كانوا مضطهدين، وكذلك لعدة أسباب وعوامل لا يمكن أن تجعل من وضع الأكراد في سورية يشكّل قضية سياسية منفصلة عن قضية الشعب السوري. 
بشأن العامل التاريخي، لم تكن سورية بحدودها الحالية، أو التاريخية (بلاد الشام)، تشكّل أي جزء من الأراضي التقليدية للجماعات الكردية في التاريخ، فقد أجمعت المصادر التاريخية على أن مناطق الأكراد التاريخية تقع ضمن الإقليم الذي أطلق عليه البلدانيون في القرون الوسطى (إقليم الجبال)، ويقع في جبال إيران في المنطقة المحصورة بين إيران وأذربيجان، ولكن طبيعة بناء الدولة الإسلامية، وظروفاً أخرى مختلفة، ساهمت في تنقلات الشعوب الإسلامية في كل أرجائها، وقد بدأ الوجود الكردي في منطقة ما بين النهرين منذ العصر العباسي، كما خدم الأكراد ضمن فرق الجيوش الإسلامية، وازداد وجودهم في بلاد الشام ومصر في الحقبتين، النورانية والأيوبيّة. وبات هؤلاء جزءاً من ثقافة المجتمعات التي انتقلوا إليها، وفقدوا خصائصهم القومية بشكل كامل، ويمكن تسميتهم "أكراد الدواخل" بلُغةِ الباحث السوري جمال باروت، وهم يختلفون عن "أكراد الأطراف" الذين ينتشرون في الشمال السوري مثلاً، وهؤلاء بدأ وجودهم على شكل قبائل رحّل منذ القرن الثامن عشر في هذه المناطق، استعربوا نتيجة التأثر بالمحيط العربي هناك. وتعزز الوجود الكردي في شمال سورية، في بدايات القرن العشرين، على خلفية بذور الصراع القومي بين الأتراك والأكراد، ما ساهم في تغذية المنطقة بعناصر كردية ساهمت في تعزيز الوعي القومي الكردي لدى الأكراد السوريين. واستمر نشاط أكراد المنفى القومي في سورية منذ العهد الفرنسي، وازدادت وتيرته مع ظهور حركة الملا مصطفى البرزاني في العراق، وظهرت بوادر أول حركة كردية في سورية سنة 1957، ليتطوّر نشوء الحركات الكردية في حقبة رئاسة حافظ الأسد في سورية إلى 12 حزباً، وصولاً إلى يومنا هذا الذي تشهد فيه الساحة الكردية في سورية ما يزيد عن 70 مسمّى لحزب 
ومنظمة وتيار، تنقسم بمجموعها إلى كتلتين رئيسيتين: واحدة تتبع مسعود البرزاني في شمال العراق (ممثلة بالمجلس الوطني الكردي في سورية)، والثانية تتبع منظومة حزب العمال الكردستاني، والتي شكلت وحدات حماية الشعب الكردية جناحها العسكري في سورية، ومثلت هذه الوحدات العصب الرئيسية لقوات سورية الديمقراطية (قسد) التي أوجدتها الولايات المتحدة الأميركية في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، مع إعلان الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مدينة الرقة.
وبشأن العامل الديموغرافي والجغرافي، كانت الديموغرافيا القومية من أبرز محدّدات التقسيم التي اعتمدتها الدول الكبرى في أثناء تقسيمها الدولة العثمانية. وكانت جميع التقارير العسكرية البريطانية والفرنسية تركز، بشكل رئيسي، على التقسيمات اللغوية والإثنية والطائفية في دراستها المجتمع العثماني، وقد تضمنت اتفاقية سيفر 1920، وفق هذا المنظور، وصفاً للمناطق ذات الغالبية الكردية وفق المواد 62، 63، 64 التي عالجت موضوع كردستان. وبحسب تلك المواد، كانت المناطق ذات الغالبية الكردية المرشحة لتكون منطقة حكم ذاتي للأكراد ضمن نطاق حدود تركيا الحالية، وجزء منها في المناطق الجبلية في العراق شمال الخط الأفقي الذي يمر من العمادية. ولا يقع أي جزء من هذه المناطق في سورية، بل على العكس، كانت الحدود السورية تضم، وفق اتفاقية سيفر نفسها، ماردين وأورفا وعينتاب وكيليكيا والإسكندرونة بوصفها أراضي سورية، وسكانها ناطقين بالعربية، والمناطق الكردية تقع إلى الشمال من هذه المناطق.
على الرغم من التبدّلات الديموغرافية التي شهدتها منطقة الشمال السوري في الحقبة الفرنسية، نتيجة السياسة الإثنية التي كان الفرنسيون يتبعونها، فإن العامل الديموغرافي لا يزال يشكّل أبرز تحدٍّ يواجه الأكراد السوريين في مطالبهم ذات الطابع القومي، إذ لا يوجد في سورية ما يمكن تسميتها مناطق كردية، وفق التوزع الديموغرافي القومي في سورية، وهنا تبرز تجليات أهم الفروق بينهم وبين أكراد العراق الذين يشكلون أغلبية ساحقة في مناطق الشمال العراقي.
تشكل محافظة الحسكة أكبر تجمع للأكراد في سورية. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم يشكلون أغلبية سكانية في أربع نواحٍ حدودية مع تركيا فقط: عامودا، الدرباسية، المالكية، الجوادية، من أصل 12 ناحية في المحافظة، وتبلغ نسبة الأكراد في هذه المحافظة نحو 26% - 28%، وعلى مستوى منطقة شرق الفرات التي تضم ثلاث محافظات رئيسية (دير الزور - الرقة - الحسكة)، يشكل الأكراد نحو 12% - 15% من مجموع سكان شرق الفرات، وهذا يفسر لماذا يشكّل العرب النسبة الكبرى من عناصر قسد فعلياً.
كذلك يشكّل الأكراد غالبيةً سكانية في منطقتين تتبعان ريف حلب، هما عفرين وعين العرب، ويتوزع عدد قليل من الأكراد في مدينة حلب، وكذلك في أحد أحياء العاصمة دمشق، ويشكل 
مجموع الأكراد في سورية ما نسبته أقل من 6% من مجموع السكان (يُنظر: دراسة الجغرافية البشرية لأكراد سورية، معهد العالم للدراسات 06 يوليو/ تموز 2016).
شكل المؤتمر العاشر للحزب الديمقراطي الكردي في سورية (البارتي)، سنة 2007، نقلة نوعية في الخطاب الكردي، فقد جاء في المادة الخامسة من مقرّرات المؤتمر: "البارتي ينطلق في نضاله من واقع وجود شعب كوردي في سورية يعيش على أرضه التاريخية، وهي بذلك تكون قضية (أرض وشعب)، وأنه يشكل القومية الثانية في البلاد بنسبة 15%". وطرح حزب الاتحاد الديمقراطي التابع لحزب العمال الكردستاني، كذلك في نظامه الداخلي سنة 2012، ما سماها "القضية الكردية في سورية"، وجاء بحسب نظامه الداخلي: "يعلن الحزب، في نظامه الداخلي، أن قائده وقائد الشعب الكردي هو عبد الله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني). ويعلن الحزب أنَّ هدفه هو حل ما سماها (القضية الكردية في غرب كردستان)، وهو يلتزم بهذه التسمية إلى جانب تسمية (روجافا)، للتعبير عن مناطق أو إقليم كردي في سورية".
لم يسلم ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية أيضاً من الوقوع في مطب المصطلحات، إذ نصّ الاتفاق الموقع بينه وبين المجلس الوطني الكردي، من بين شروط لانضمام الأخير لصفوف المعارضة سنة 2013، على بند جاء فيه: "يعمل الائتلاف على إقامة فعاليات وأنشطة تساهم في التعريف بالقضية الكردية في سورية والمعاناة التي مرّ بها المواطنون الكرد على مدى عقود من الحرمان والتهميش!".
وبالتالي، باتت عبارات، مثل القضية الكردية في سورية، الشعب الكردي الذي يعيش على 
أرضه التاريخية، جزءاً أساسياً من خطاب جميع الأحزاب الكردية وأدبياتها، إذ إن أي تعريف مغاير للأكراد بوصفهم "جزءاً من الشعب السوري" لن يخدم مزاعم "قضية كردية في سورية"، والتي تبرّر مطالب الأكراد أن تكون لهم خصوصية في الدستور، أو "حق تقرير المصير" بمعزل عن الشعب السوري.
.. أفضل تعامل مع مسألة أكراد سورية، وكل المواضيع ذات الخصوصية التي تتعلق بباقي الأقليات (دينية أو إثنية أو طائفية)، هو أنها مسائل وإشكالات يجب مناقشتها وبلورتها بوصفها جزءاً من قضيةٍ سورية أعم وأشمل، وذلك ضمن إطار يحقق مصلحة جميع السوريين، والحفاظ على مستقبلهم ووحدتهم، فسورية ليست استثناءً من بين الدول التي تضم أقلياتٍ دينية، طائفية أو لغوية. وبالتالي، ينبغي التعامل مع هذه الحقيقة عبر تكثيف الجهود لتشجيع فرص الاندماج المجتمعي بين كل المكونات السورية. وليس المقصود هنا بالاندماج الصهر، أو الإلغاء القسري لأشكال التمايز التي يجب إقرارها أيضاً، واحترامها في إطار الحريات العامة التي يجب أن يكفلها الدستور للجميع، كحرية الاعتقاد وحق تعلم اللغة الأم وغيرهما من الحقوق التي تضمن لجميع الأقليات الشعور بالأمان والاستقرار والمشاركة الفعلية في المجتمع. كذلك تقع على عاتق الأغلبية مسؤولية كبيرة في تغليب النظرة الإيجابية المتفائلة إزاء الأقليات وطمأنتها وتشجيعها على ممارسة ثقافتها، والحفاظ على معتقداتها وخصوصيتها، أما السلطة فتقع عليها مسؤولية كبيرة في سن كل القوانين وإشاعة كل المفاهيم، لترسيخ مبادئ المواطنة، بدلاً من إشاعة شعاراتٍ عن اللحمة الوطنية، خالية من التطبيق والممارسة الفعلية على أرض الواقع.
4F70DC06-7112-4271-9200-D4555370FA7F
4F70DC06-7112-4271-9200-D4555370FA7F
مهند الكاطع
مهند الكاطع