بشرى المقطري والموت اليمني

18 يناير 2019
+ الخط -
ليس الذي يحدُث في اليمن حربا. لا دقّة في هذه التسمية. إنها عملياتُ قتلٍ فحسب. جرائمُ لإزهاق الأرواح كيفما اتفق. الموت كثيرٌ هناك، والذين يُقتلون صغارٌ وشيوخٌ وأزواجٌ وزوجاتٌ وأحفادٌ وأبناءٌ وبناتٌ وصِبيةٌ وأمهاتٌ وجدّات، في كل جغرافيا هذا البلد المنذور للقنابل والقذائف والرصاص، وللقنّاصين والمتحاربين وعصابات الخطف والتمويت والسّرّاق. .. هذه واحدةٌ من حقائق مفزعةٍ كثيرة، يُنبئك بها كتاب الصحافية الفدائية، بشرى المقطري، "ماذا تركت وراءك؟.. أصوات من بلاد الحرب المنسية" (رياض الريس للنشر والتوزيع، 2018). يختفي اليمن من هذا العنوان، لكنه حاضرٌ في تسميته الأخرى، بلاد الحرب، وأظنّها حربا كانت ستصير منسيةً لولا يمنيون، قليلون للأسف، ضمائرُهم حية، معنيون بالناس ومصائرهم، مثابرون في الدفاع عن وطنهم المجروح هذا، بإشهار الموقف الصَّح، والتأشير إلى القتلة بأسمائهم، في أي ضفةٍ كانوا، من دون اصطفافٍ مع شرعيةٍ مُهانة أو مع خصومها، مع حوثيين أو محاربيهم، فالجريمة الحادثة هناك، والمستمرّة باستهتارٍ معلن بقيمة الحياة، يرتكبُها الجميع. وبشرى المقطري، متّعها الله بدوام الصحة، في مقدّمة هؤلاء اليمنيين النظيفين. وهنا أجهر بأني أحسُدها، لأنها زاولت، في إنجازها هذا الكتاب الحدث، النادر النوع، الصحافةَ عن حق، لمّا انشغلت بالألم اليمني المديد، وطافت في بلدها، لتنقل كلام ضحايا القتل اليومي في غير مدينةٍ وبلدةٍ، باعتباره حقّا لهم، ولأنه سلواهم، عندما يحمون أحبَّتهم، الميتين في غضون هذا التقتيل، من النسيان.
أي أعصابٍ لدى الزميلة بشرى، وقد احتملت أن تسمع ما سمعت، وسجّلت، كما ذكرت في مقابلةٍ صحافية معها، ثمانمائة تسجيل، مع ناجين أصْغت إليهم، وهم يروون ويتكلمون، عن ناسهم الذين أخذهم قاتلوهم إلى قبورٍ تهيأت كيفما اتفق. انتخبت بشرى ثلاثةً وأربعين حكاية مما سمعت وسجّلت، ودوّنتها بعفويةِ ساردةٍ محترفةٍ، بمَلَكاتِ قاصّةٍ خبيرةٍ بجوانيات البشر، عليمةٍ بالحزانى والمكلومين، بالناس كيفما كانوا. مؤكّدٌ أن البسطاء الفقراء، الباكين الدامعين، المقيمين على قهرٍ وغيْظٍ وفيريْن، لم يتكلموا عن فقدهم أهاليهم، باللغة الرائقة المقطّرة الموشّاة بشفافيةٍ، والتي تزيدني حسدا مضافا من بشرى، فقد حلّقتْ عاليا في تدوينها كل هذا الأسى الباهظ، وهذه الفجيعة اليمنية المثقلة بمراراتٍ فادحةٍ. مؤكّدٌ أنهم كانوا يحكون ما تسترسل به مآقيهم ودمعاتُهم، بلا مجازاتٍ أو استعارات. مؤكّدٌ أن حَكيَهم كان طَلْقا أو متقطعا أو بيْن بيْن. ولكن بشرى، وصاحب هذه السطور من أعرف قرائها بلغتها، إذ يتلقى بغبطةٍ مقالاتها للنشر في "العربي الجديد"، ذهبت بما سمعت وسجّلت إلى منزلةٍ رفيعةٍ من بلاغة الكلام، الغزير الحرارة.
لم تكتب بشرى نصوصا أدبية، ولا أرادت قصّا يفيد من واقعٍ منظور، من شهاداتٍ حية، ثم يتوسّل خيالا أو إيحاءً. لم تفعل شيئا من هذا، فقد وثّقت جرائم اقترفها حوثيون أو محاربوهم، بالساعة واليوم والشهر، بالقرية والبلدة والمدينة، بالحارة والشارع، بأسماء الذين قضوا في هذه الجائحة أو تلك. وإذا كانت الأمانة المهنيّة، والبعد الحقوقي، وراء جهد بشرى المقطري هذا، الفائق المتانة، فإنه أيضا ينتصر للحقيقة، عندما لا يخدِشُها أي تلوينٍ أو انحيازٍ أو اصطفافٍ أو أي رأي أو اجتهاد.
ما الذي في وسعك أن تتخيّله من عواصف في روح امرأةٍ ووجدانها وبدنها، عندما يُخبرها أخوها الكبير إن إخوتها وأولاد أخيها قتلوا؟ أي واقعيةٍ، بلزاكية أو سحرية ماركيزية أو محفوظية، في مقدورها أن تبلغ هذه العبارة التي نطقتها اليمنية، عزّية عبده محمد صالح: "حين أسمع صوت القذائف، أتذكّر تلك اللحظة، الجثث وبركة الدماء في صالة بيتنا، وآهٍ مخنوقةٍ لحبيب يغادر الحياة، ويداي المتشنجتان تتحرّكان بلا أمل في رأس ابني"؟ يسأل ياسين عبد القوي صالح الجبري: ما الذي فعلتْه أسرتي ليكون مصيرُها القتل؟ ثم يسأل بشرى: لولا أصدقائي لفقدتُ عقلي. هل تتخيّلين ذلك؟ ويقول: أسرةٌ كاملة تُباد، لم يتركوا لي شيئا لأتذكّر به أسرتي، لأقتفي أثرَهم، رائحتَهم، ملامحَهم، لأقنع نفسي بأنهم كانوا هنا على هذه الأرض. ويقول مكلومٌ آخر، يبكي زوجته: ليتني أقدر الصعود إلى السماء، وإرجاعها إلى حياتي.
مرّة أخرى، وليست أخيرة، أيّ أعصابٍ لدى بشرى المقطري مكّنتها أن تسمع ما سمعت، ثم تكتب ما كتبت، في منجزها الباهر هذا؟
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.