لا حنين لوطن يحكمه الفاشست

05 اغسطس 2018
+ الخط -
وصل ابنُ بلدنا المحترم، عبوده المرمري، إلى مطار دمشق الدولي قادماً من باريس، في وقت متأخر من النهار. كان يتوكأ على عصا أنيقة ومزخرفة، يستعين بها على آلام ركبته اليمنى.
تخرّج "عبوده"، في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق سنة 1972، وعاد ليستقر في مدينته الشمالية، ولكنه لم يجد عملاً لائقاً يعيش منه، فاضطرّ لتدريس حصص إضافية لمادة المحاسبة والمالية في الثانويات التجارية.. وكانت التعويضات التي يتقاضاها لقاء تدريس الحصص تكفيه للعيش عشرين يوماً من الشهر في مستوى الكفاف، ليبدأ الاقتراض من أصدقائه لغاية اليوم الأخير من الشهر، وحينما يأتي الصيف يتوقف عن التدريس، ويذهب إلى سوق الهال، ليعمل محاسباً عند أحد أصحاب المحلات لقاء أجر صغير.
في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، شعر "عبوده" أن حياته إن استمرت على هذا المنوال سوف يبقى رفيقاً دائماً للفقر والنحس إلى أن يموت ويوارى تحت التراب، بعد عمر طويل، فغادر إلى دمشق وأقام فيها سنتين، واشتغل في مكتب تجاري صاحبُه رجل شاطر، يعمل لمصلحة رجل متنفذ في المخابرات.
تحسّنت أحوال "عبوده" بشكل كبير، وصار هو العمود الفقري لهذا المكتب، لِمَا أبداه من مهارة في التصدير والاستيراد وفَتْح الاعتمادات المستندية، ومقدرةٍ على متابعة أسعار العملات والبورصات والمضاربات.. وفي مرة "نقشت" معه الأمور، وحقق ضربة حظ كبيرة، إذ وصل إليه عرضٌ للعمل في باريس براتب كبير، إضافة إلى نسبةٍ من أرباح الشركة صاحبة العرض.. فسلم ما في يديه من عهدة لمدير المكتب، وطار إلى باريس. وخلال بضع سنوات، بدأ يتحوّل إلى رجل أعمال كبير، يعيش حياة مخملية: مال وجاه ونفوذ ومكتب وفريق عمل ومراسلون. وفي الليل ضيوف رجال، ونساء صديقات، وإلى آخره.
روى عبوده لأصدقائه الخلص، فيما بعد، حكايته مع الزيارة التي جاء فيها إلى سورية بعد أكثر من عشرين سنة، أمضاها في باريس، فقال:
- خلال هاتيك السنين، كنت أزداد انسجاماً مع المجتمع الفرنسي، وابتعاداً عن المجتمع السوري.. أصلاً أنا وحيد لوالديَّ، وقد غادرا الحياة منذ زمن بعيد، ولم يعد لي أهلٌ في سورية، وحتى ما يسمونه "الحنين للوطن" لم يعد موجوداً لدي.. ولكن أحد السوريين زارني في مكتبي، فذكّرني ما فعله بي بمثلٍ شعبي تعلمته، حينما كنت أعمل محاسباً في سوق الهال.. كان صاحب الدكّان يحكي لرفاقه، في آخر النهار، عن بضاعةٍ باعها في الصباح، بسعر ما. وفي المساء، ارتفع ثمنها، فإذا سأله أحدهم لماذا بعتها يلقي باللائمة على واحدٍ من جيرانه نصحه ببيعها، ويقول: جدي لعب بعقل تيس! هذا المواطن السوري لعب بعقلي، وزَيَّنَ لي فكرة زيارة الوطن، فذهبتُ، مغالباً أوجاع ركبتي. وفي المطار، وبدلاً من أن يأتي أحد العاملين لمساعدتي، اعترض طريقي ثلاثة شبان، الواحدُ منهم إذا ربطتَهُ بشجرة التوت وأجفلته، فإنه يقتلعها. قالوا لي: أنت عبوده المرمري؟ قلت: نعم. قال: تعال معنا. عازمينك على فنجان قهوة.
تقصّفت ركبتاي من تحتي، وأنا أسمع بقصة فنجان القهوة، لأني، خلال وجودي في باريس، كنت أسمع عن أناسٍ أمضوا سنوات طويلة في سجن تدمر بحجة القهوة، ومات بعضهم، وخرج بعضهم الآخر، من دون أن يذوق القهوة. سألتُ الأباعر الثلاثة الذين شرعوا يدفشونني بأيديهم وأرجلهم إلى إحدى غرف المطار عن سبب هذا الاحتجاز، فقال لي أحدهم: يعني لا تعرف أيش عامل؟ أنت متحرّش بفتاة قاصر في دير الزور.. ضحكت رغماً عني وسألته: متى؟ فزجرني رفيقُه الآخر طالباً مني عدم الإكثار من الأسئلة البايخة. المهم أنني تهالكتُ جالساً على أحد الكراسي، ريثما أجرى مطابقةً بين جواز سفري، وصورة محضر ضبط موجودة أمامه، وبعد قليل ناولني الجواز، وقال: هادا مو أنت. في تشابه أسماء. قم انقلعْ.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...