في دروس "قضية بنعلا"

25 يوليو 2018

ألكسندر بنعلا.. قضية تربك الرئاسة الفرنسية (17/6/2017/فرانس برس)

+ الخط -
تُعلِّمُنا ما أصبح يطلق عليها "قضية بنعلا" في فرنسا، نسبة إلى اسم صاحبها ألكسندر بنعلا، المساعد الخاص للرئيس إيمانويل ماكرون، دروسا كثيرة بشأن طريقة اشتغال آليات الديمقراطية في البلدان المتقدمة، عندما تمارس كل سلطة دورها المنوط بها في مراقبة السلطات الأخرى، حتى لا يطغى دور سلطة على أخرى، فطوال الأسبوعين الماضيين منذ اندلاع هذه القضية التي تحولت إلى "قضية دولة" في فرنسا، رأينا كيف تحرّكت كل سلطة لأداء دورها المنوط بها، في إطار ما يحدّده لها الدستور الفرنسي، من الإعلام إلى الرأي العام فالسلطة التنفيذية والقضاء والبرلمان، وفي قلب هذه القضية/ الفضيحة توجد مؤسسة الرئاسة، وعلى رأسها الرئيس ماكرون.
يتعلق الأمر بقضية تعود إلى الأول من مايو/ أيار الماضي، عندما أقدم ألكسندر بنعلا، مساعد ماكرون السابق، على تعنيف متظاهرين في مسيرة بمناسبة عيد العمال. ولسوء حظ بنعلا، قام نشطاء بتصوير لحظة تعنيفه المتظاهرين، وسرعان ما انتشر المقطع على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هوية بنعلا لم تكشف للجمهور العريض، وعقابا له على فعلته، اكتفى قصر الإليزيه الذي يشتغل فيه بنعلا مكلفا بمهمة، ومساعدا لمسؤول مكتب الرئيس، بتوقيفه أسبوعين من دون أجر. وظلت القضية طي الكتمان، حتى اعتقد الإليزيه أنها طويت مع الوقت، إلى أن حققت صحيفة لوموند في الفيديو، وكشفت للرأي العام هوية الشخص الذي يظهر في مقطع الفيديو، وهو يضرب بعنف متظاهرين، ويجرّ متظاهرة من عنقها، ويعتدي بالضرب المبرح على متظاهر آخر، بينما كان يضع على رأسه خوذة رجال الشرطة، علما أنه ليس شرطيا. ولم يكن هذا الشخص سوى أحد أقرب المساعدين إلى الرئيس ماكرون، تعود أن يظهر بمحيطه في أكثر من مناسبة.
كان لتحقيق "لوموند" أثر الصدمة الكبيرة التي هزّت الرأي العام الفرنسي، حتى أنسته فرحته 
بنيل كأس العالم في كرة القدم، وتحرّكت النيابة العامة بسرعة، وأمرت بتوقيف بنعلا والتحقيق معه قبل توجيه اتهامات خطيرة له، مثل "ارتكاب أعمال عنف جماعية"، و"التدخل في أداء وظيفة عامة"، و"وضع شارات من دون حق"، و"إخفاء اختلاس صور من نظام مراقبة عبر الفيديو". وعلى خط موازٍ، تحرّك البرلمان، وشكل لجنة للتحقيق في القضية، وبدأ جلسات الاستجواب العلنية لكبار المسؤولين في الدولة ممن لهم علاقة بالقضية. وأول المستجوبين كان وزير الداخلية الذي لم يتردّد في تحميل المسؤولية مباشرة إلى الرئاسة الفرنسية التي لم تتخذ الإجراءات اللازمة، عندما أرسل لها مقطع الفيديو الذي يظهر أحد أقرب معاوني الرئيس، وهو يعنف متظاهرين في الشارع العام. ولم يسلم من استجواب البرلمان حتى مفوض شرطة باريس، ومدير مكتب الرئيس نفسه الذي تم استدعاؤه للاستجواب، ولا يعرف أين سيتوقف تدحرج كرة الثلج هذه، وكم ستجرف معها من الرؤوس، بعد أن تحولت الفضيحة إلى قضية رأي عام، تشغل وسائل الإعلام والمواطن الفرنسي والسياسيين  الفرنسيين الذين أجمعوا أول مرة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، على إدانة الواقعة، والمطالبة بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
بدأت الأسئلة المحرجة تتناسل تباعا داخل البرلمان، ومن السياسيين وفي وسائل الإعلام وعلى المواقع الاجتماعية، من قبيل: لماذا لم يتحرّك المسؤولون في الرئاسة والشرطة والحكومة الذين كانوا على علم بالواقعة منذ حدوثها؟ لماذا حاولوا طمس وقائعها؟ من كان على علم بها؟ لماذا لم يتم رفع القضية إلى القضاء؟ ما هي الأسرار التي يملكها ألكسندر بنعلا، حتى يتمتع بمثل 
هذه الحماية؟ لماذا تمسّك الرئيس بمساعده، على الرغم من علمه بفعلته، ليعود بعد فترة تأديبه القصيرة، ليظهر من جديد في صور وفيديوهات عديدة إلى جانبه، وفي أنشطة رسمية؟ ما هي طبيعة العلاقة الشخصية التي تجعله يحظى عند رئيسه بِحُظْوَةٍ لم ينلها غيره؟ وما الذي يجعل الرئيس يلوذ بالصمت، وهو الذي عرف بتصريحاته المتنطعة وغير الدبلوماسية، عندما ظهر في أكثر من مقطع فيديو ينهر مهاجرة مغربية، ويدعوها إلى العودة إلى بلدها، أو وهو يُقرّع فتيانا فرنسيين، لأنهم فقط لم يدعوه "السيد الرئيس"، أو وهو يهين بعجرفة رئيس بوركينا فاسو أمام طلاب في عاصمة بلاده واغادوغو؟
من شأن الإجابة على أسئلةٍ عديدة أن تكشف عن خبايا وحقائق خطيرة، قد تطيح الرئيس ماكرون، وقد بدأ من الآن السياسيون والإعلام في فرنسا يستعملون وصف "ووترغيت فرنسا" للإحالة إلى إمكانية إسقاط الرئيس، عندما تتكشف باقي عناصر الصورة التي تحاول جهات مقرّبة من الرئيس إخفاءها عن الرأي العام.
النوتة النشاز في هذا التناغم بين اشتغال آليات الديمقراطية الفرنسية هي تلك الإشارات العنصرية إلى أصول بنعلا المغربية، وقد بدأت بعض وسائل الإعلام تشير إلى مواطنيته الفرنسية مقرونة بأصوله المغربية، كما لو أنها تسعى إلى الإيحاء بنوعٍ من العلاقة بين تصرّفه وأصوله المغربية. وللمفارقة، كانت وسائل الإعلام نفسها تحتج، بالأمس القريب، عندما كانت وسائل إعلام عالمية تشير إلى الأصول الأفريقية والمغاربية لأبطال فرنسا في كأس العالم في روسيا، فالمتجنّسون يكونون فرنسيين أقحاحا عندما يجلبون المجد والشرف لفرنسا، ويعاد تذكيرهم وتذكير العالم بأصولهم عندما يُراد ربط أخطائهم بجذورهم! وتلك قصة أخرى تكاد تشترك فيها كل الديمقراطيات الغربية بدون استثناء.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).