لبنان والعودة إلى "الزمن السوري"

12 يونيو 2018
+ الخط -
يبدو يوم 14 فبراير/ شباط 2005 بعيدا سنين ضوئية. أحدث اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، النائب في حينه، رفيق الحريري، في ذلك اليوم، زلزالا في تاريخ لبنان الحديث، ونقله من زمن إلى آخر. كان زمن الوصاية السورية التي تحولت إلى احتلال، وإلى استباحة لنظام لبنان السياسي ومؤسساته، واستلابا بالتالي لقراره واستقلاله وتحويله إلى مزرعة للطاقم السياسي الذي نصّبته سلطة الوصاية. وها هو لبنان اليوم يشهد مجددا محاولات للعودة إلى ذلك الزمن، عبر الانتخابات، وعبر تشريعات سلطةٍ كانت، في ما مضى، ترفع شعار التصدي للاحتلال السوري. استمرت هذه الحالة نحو ثلاثة عقود، نصفها بحكم الأمر الواقع خلال سنين الحرب والنصف الآخر بغطاءٍ من السلطة التي ولّتها، والتي كانت تقف متسكعةً على أبواب الحكم في دمشق، ولدى ضباطه في البقاع.
بعد شهرين فقط على ارتكاب جريمة الاغتيال المدوية، أجبر بشار الأسد على سحب الجيش السوري من لبنان، وبدأت السلطة المحلية تتفكّك، على الرغم من محاولة حزب الله الذي بقي خارج الصورة إلى حينه الخروج إلى العلن، والاضطلاع بدور الوكيل للنظام السوري، غير أن الانتخابات النيابية أعطت أكثريةً راجحةً لقوى "14 آذار" التي قادت يومها الانتفاضة المليونية من أجل "استعادة الاستقلال"، وجلاء القوات السورية. وسقطت الرموز السياسية للنظام الأمني السوري - اللبناني، وعاد العماد ميشال عون من المنفى، وتم إطلاق سراح سمير جعجع بعد إحدى عشرة سنة في السجن. وشكلت لأول مرة حكومة لبنانية برئاسة فؤاد السنيورة بدون اليد الغليظة للنظام البعثي، وبدأت عملية تطهير الأجهزة الأمنية. لم يستسلم حلفاء النظام السوري
وأزلامه، واستمروا يعملون من أجل استعادة الدور والنفوذ، وتحديدا حزب الله الذي كان الطرف الوحيد المسلح، والأكثر قدرةً، والأكثر تنظيما، والأكثر التزاما بالإمرة الإيرانية وبمصالح السلطة السورية. فكانت عملية احتلال وسط بيروت التجاري في نهاية 2006 سنة ونصف السنة، ومحاولة اقتحام السراي الحكومي، تبعها غزو المليشيات الشيعية غرب العاصمة في 2008 ووقوع ضحايا، واستمرار التفجيرات والاغتيالات لقيادات ورموز من فريق "14 آذار"، إلا أن كل ذلك لم ينفع، إذ تمكّنت قوى هذا الفريق من الفوز مجدّدا في الانتخابات البرلمانية في 2009 وترؤس سعد الحريري أول مرة الحكومة اللبنانية، بعد اتفاق الدوحة.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، ووصول النار إلى أرضية النظام السوري، سارع أتباعه في لبنان في 2011 إلى قلب الطاولة، عبر إسقاط حكومة الحريري، واللجوء إلى الشارع لفرض حكومة الحليف نجيب ميقاتي الذي شكل حكومةً اقتصرت على "الفريق الممانع"، وجسّدت بداية الانقلاب على مكتسبات 14 آذار، ودامت في الحكم سنتين. بعدها عطل حزب الله تشكيل حكومة جديدة سنة تقريبا، بعد أن كان قد انخرط في القتال دفاعا عن نظام الأسد، فاضطر عندها الحريري إلى إعلان "ربط نزاع" مع أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، والمشاركة معه في حكومة واحدة، على الرغم من صدور قرارات عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تتهم كوادر من حزب الله في جريمة اغتيال والده رفيق الحريري. ولكن إرسال إيران مليشياتها لنجدة بشار الأسد لم يؤت ثماره، فجاء قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالتدخل العسكري حاسما لينقذه من الانهيار. وكان الرد في لبنان بالتوازي تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، وإبقاء موقع الرئاسة فارغا سنتين ونصف السنة، ما لم يتم فرض ميشال عون رئيسا، بعد أن أصبح الأخير رأس حربة "الممانعين" وصديقا للنظام السوري.
بقاء الحريري سنواتٍ خارج السلطة، وتدهور مشاريعه وأعماله في السعودية، أوجد من يقنعه بأن الحل الأفضل هو الذهاب إلى عقد تسوية مع عون المدعوم من حزب الله، تقوم عمليا على تبادل السلطة والخدمات، عنوانها عون رئيسا للجمهورية والحريري رئيسا للحكومة، والتي راحت تفوح منها باكرا رائحة الصفقات الكبرى في قطاع الكهرباء وقطاع الاتصالات والنفط، (والغاز قبل أن تنطلق عمليات التنقيب). وقد أدت التسوية عمليا إلى فرط فريق "14 آذار"، ثم تكفل احتجاز الحريري لاحقا في السعودية بالقضاء على ما تبقى منه بشكل كامل. أما العنوان الأكبر لمرحلة العودة الذي أخرجه حزب الله باتقان فهو قانون الانتخاب الجديد الذي اعتمد فيه مبدأ النسبية، ومكّنه من بسط نفوذه على مجلس النواب، من أجل تحصين نفسه تحسبا لأي تطورات في الأزمة السورية. فقد سيطر ثنائي حزب الله وحركة أمل على كل المقاعد المخصصة للطائفة الشيعية، ومهد الطريق لعودة وجوه النظام السوري وأزلامه إلى البرلمان، بعد غياب دام ثلاث عشرة سنة.
هذا إيلي الفرزلي الذي دبك في وداع اللواء السوري وحاكم لبنان السابق، رستم غزالي، يستعيد ليس فقط مقعده النيابي، وإنما أيضا موقعه نائبا لرئيس البرلمان. والمفارقة أن من رشّحه للمنصب هو "تكتل لبنان القوي"، أي الكتلة النيابية لتيار رئيس الجمهورية، وهو بات عضوا فيه! وقد أعلن عند دخوله مجدّدا قاعة البرلمان أن "خطأ تاريخيا قد تم تصحيحه". كما عاد إلى البرلمان النائب والوزير السابق عبد الرحيم مراد، مرشح "فريق الممانعة" الجاهز لرئاسة الحكومة في حال إطاحة الحريري. ودخل البرلمان لأول مرة على لائحة حزب الله، اللواء السابق جميل السيد، رجل المخابرات بامتياز المقرّب جدا من النظام السوري، والذي اعتقله المحققون الدوليون بتهمة التورط في جريمة اغتيال الحريري، ثم أطلق سراحه بعد أربع سنوات.
وقد بلغ مجموع "الودائع السورية" من النواب العائدين نحو عشرة. وبهذه النتائج، تمكّن "الفريق الممانع" من قلب المعادلة، وبات يشكل، مع التيار العوني والحلفاء والملحقين، أكثرية راجحة في البرلمان، توازي الأكثرية التي كانت في حوزة فريق 14 آذار في دورتي انتخابات 2005 و2009. فيما الحريري الذي أعيد تكليفه يتخبط اليوم في تشكيل الحكومة الجديدة، وسط الشروط المتشابكة والمتضاربة لمختلف الأفرقاء، فهو من جهة لم تعد لديه شبكة أمان تحصّنه. ومن جهة أخرى، هو أسير فريقٍ لا يثق به، ويكبله بالشروط، وينتظره عند أول دعسة ناقصة.

أخيرا لا آخرا، ثالثة الأثافي فضيحة مرسوم تجنيس أجانب، والتي انفجرت قبل أيام، وطاولت شراراتها رأس الهرم، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة إلى وزير الداخلية، المعنيين بإعداد المرسوم والتوقيع عليه. مرسوم أعد في الخفاء، ولم يعلن عنه رسميا، شمل مئات الأشخاص، معظمهم سوريون وفلسطينيون، وبعض العراقيين واليمنيين ومن جنسيات أخرى. وكُشف أن معظم السوريين هم من رجال الأعمال والمتمولين الكبار المقرّبين من النظام، والذين كانت لبعضهم مسؤوليات حكومية، أو كانوا على رأس مؤسسات عامة، ما أثار كثيرا من الريبة في الأوساط السياسية بشأن الهدف الحقيقي من هذه الخطوة، إذ أن وضعهم وانتماءاتهم تظهر وتؤكد أنهم ليسوا أصحاب حق أو أصحاب حاجة، كما ينص عليه قانون منح الجنسية. وأكثر من ذلك، تردّدت معلومات أن سوريين من هؤلاء المجنسين تطاولهم العقوبات الدولية المتعلقة بالإرهاب وتبييض الأموال. وفيما يخص الفلسطينيين، يمنع القانون تجنيسهم، لأنه يخالف ما جاء في الدستور اللبناني، لجهة منع التوطين. فما الغاية منه إذن؟ هل إن من أعدّ له قد عقد صفقات مالية مع هؤلاء المشمولين بالمرسوم، كما تتناقل وسائل الإعلام؟ وهنا فضيحة أكبر.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.