إلى أين يعود الفلسطيني؟

08 ابريل 2018
+ الخط -
إلى أين يعود العائد الذي لم يغادر بيته؟ أعني إلى أي أرضٍ كان يعتزم الفلسطينيون أن يعودوا في مسيرة العودة الدموية قبل أسابيع، إذا كانوا مقيمين على أرضهم، أصلًا؟ ولماذا علينا كل عام أن نودع كوكبة من شهدائهم لقاء "عودةٍ" لم يسبقها تهجير لمن بقي منهم داخل حدود وطنهم؟
أتفهم أن يحاول العودة فلسطينيو الشتات، وأن ينظموا مسيراتٍ حاشدةً على حدود فلسطين، على الرغم من أن ذلك لم يحدث إلا لمامًا، ولدوافع سياسية لبعض دول "الطوق" المحيطة بإسرائيل، على غرار ما فعله النظام السوري قبل أعوام في محاولاته نقل معركة تمسّكه بالسلطة إلى المشجب الفلسطيني الذي علقت عليه الأنظمة العربية سائر مسوغات استبدادها وطغيانها، تحت ذريعة "ضرورات التحرير". لكن أن يتصدى لمهمة "العودة" فلسطينيو الداخل كل عام، فذلك ما يدعو إلى التفكير والتأمل في فلسفة العودة نفسها، وإعادة النظر في الأرض التي خلناها راسخةً تحت أقدامنا، والبيت الذي كنا نظنه مأوى وقلعة حصينة، كلما أغلقنا بابه خشية الريح.
حقًا، أما كان أولى بالفلسطيني المهدد بالريح أن "يغلق بابه ويستريح"، بعد كل عقود العناء والنصب، ولماذا يصر هذا العنيد أن يكون "الشهيد" في زمن الانسحاب العربي من كل مفردات البطولة والكرامة؟
باختصار، يفعل الفلسطيني ذلك، لأنه يدرك جيدًا، في خضم التهديد اليومي بالاقتلاع والطمس، أنه لا يمتلك الأرض التي يقف عليها، ولو كانت مبسوطةً تحت أقدامه، ولا الشجرة التي يتمدد تحتها، ولو تنعّم بظلها، ولا الدار التي يقطنها، لأنها مرشحةٌ في كل لحظةٍ أن تتحول إلى سجن خانق، جرّاء حظر تجوال مباغت، أو قنبلة غاز يرشقها جندي أرعن، بل ومهدّدة بالهدم أيضًا تحت جنازير جرافة.
يحقق الفلسطيني معادلةً لم يكتشفها بعد قرينه العربي في بلاد الشتات، قوامها أن لا أرض بلا حرية، بل إن الحرية هي الأرض الحقيقية التي تنبغي العودة إليها، كل عام، ولو كان الثمن شهيدًا تلو شهيد، ولذا فهو يوطن ذاته على العيش في "وطن مؤقت"، ريثما تحقّق له الحرية وطنه "الدائم".
أيضًا، مثل هذه المعادلة لم يدركها أزلام السلطة الفلسطينية، حين نظموا مسرحية "العودة" إلى فلسطين تحت حراب العدو، وحاولوا أن يؤدوا دور البطولة، على الرغم من أن المخرج كان المحتل ذاته، فانقلبت المسرحية إلى وبالٍ عليهم، وعلى الشعب المخدوع بهم، بعد أن استحالت السلطة إلى سلاح للعدو ضد شعبها، فكان على الأخير أن يصارع احتلالًا مركّبًا، متعدد الأقطاب، فيما تعيش السلطة الفلسطينية "أزمة عودة" حقيقية هي الأخرى، لأنها مهدّدة في أية لحظة بالطرد أو الحصار، كما حدث مع رئيسها السابق أبو عمار الذي لم تسعفه كل رموز العودة التي ابتكرها، من حرس شرف ونشيد وطني، في نشله من براثن المحتل يوم أصبح "خارج نص المسرحية" التي حاول التمرد عليها.
وأما القرين العربي الذي يتربع كل عام أمام التلفاز لمتابعة مسيرات العودة الفلسطينية، وإحصاء شهدائها، فحريّ به، هو الآخر، أن يتلمس الأرض التي يقف عليها، والبيت الذي يقطنه، لأن رسالة الفلسطيني إليه واضحة، ومفادها بأن فلسفة العودة لا تتجزأ، ومن يرضَ الأرض بلا حرية، فلا أرض له ولا مأوى ولا سماء، ولا يحق له أن يراهن على جواز سفر وشهادة ميلاد ورقم وطني، وإلا سيكون مضطرًا هو الآخر أن يعيش المؤقت على حساب الدائم، وسيكون وطنه سجنًا لن يشعر بالانتماء له، ولو كتب كله باسمه في دوائر الأراضي، إذ لا فرق بين محتل وطاغية، فكلاهما يسلب الحرية والكرامة، وكلاهما يسطو على "حق العودة".
على هذا الغرار، تكون عودة الفلسطيني كل عام إلى كرامته التي لم يستطع عدوه تجريده منها، كما فعل مع أرضه وبيته وحقله، وسائر رموزه الوطنية المادية، وهو السبب نفسه الذي يجعل العدو شرسًا في بطشه ضد المتظاهرين، لأنه يدرك جيدًا أن لا شيء سيجعله يرحل عن الأرض سوى كرامة أهلها.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.