الجغرافيا الليبية ترسم أمن إيطاليا القومي

05 ابريل 2018
+ الخط -
وضع وزير الداخلية الإيطالي، ماركو مينيتي، محدّدات الأمن القومي الإيطالي، انطلاقًا من الجغرافيا الليبية، ففي مقابلة له مع صحيفة لا ريبوبليكا، قال إن التحكم والسيطرة على حدود ليبيا الجنوبية والشمالية أولوية بالنسبة للأمن القومي لبلاده، يبدأ من ضبط السواحل الليبية التي تشكل نقطة الانطلاق الأساسية لقوارب المهاجرين. وفي سبيل ذلك، تنسق روما مع مجموعة من الأجهزة والهيئات الأوروبية للحد من الهجرة غير القانونية، وتتبع شبكات الاتجار بالبشر، أهمها قوات الأوروفورس، وهي قوات برية وأخرى بحرية، إضافة إلى الهيئة الأوروبية المختصة بمراقبة الحدود فرونتكس. وعملية صوفيا التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في 22 يونيو/ حزيران 2015، للتصدي لظاهرة الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر والجريمة عبر الحدود، وكذا ضبط الحدود الجنوبية أمام تدفقات المهاجرين، وما يرتبط بها من تهديدات أمنية، فقد نتج عن اجتماع اللجنة المشتركة الليبية الإيطالية في روما، في سبتمير/ أيلول الماضي، اتفاق يقضي بتنفيذ مشروع إيطالي يموله الاتحاد الأوروبي، على الحدود الجنوبية الليبية، يتم بموجبه إرسال بعثة إيطالية لإقامة قواعد لوجسيتة للعمليات التنفيذية لحرس الحدود الليبي، وهو ما نفته حكومة الوفاق، بأن الاتفاق لا يعني وجود قواعد عسكرية أو معسكرات إيطالية. قد تستند تصريحات الوزير الإيطالي على معلومات استخباراتية، تفيد بأن مقاتلين أجانب يستعدون لسلوك طريق عسكرية، ولانتشار فردي في أوروبا، مستغلين بالضرورة طرق الهجرة التي بقيت مفتوحة، خصوصاً أن سياسات إدارة الحدود المعتمدة بين الدول الأفريقية وليبيا تسمح بنشاط مهربي البشر، إضافة إلى عدم قدرة حكومة الوفاق الوطني على ضبط الحدود الجنوبية، وصعوبة الرقابة على الحدود التي أغلبها في الصحراء بطول 4.400 كلم مع ست دول (تشاد، النيجر، السودان، الجزائر، تونس، مصر).
تقع ليبيا في دائرة اهتمام السياسة الخارجية الإيطالية لاعتبارات تاريخية، إذ كانت ليبيا من 
المستعمرات الإيطالية في القارة الأفريقية حتى استقلالها عام 1951، وأمنيّة لقربها الجغرافي وارتباط أمن روما بأمن طرابلس، واقتصادية من خلال الذراع الاقتصادية الإيطالي، شركة إيني للطاقة التي حافظت على وجودها، على الرغم من الحصار والعقوبات الدولية التي فرضها المجتمع الدولي على نظام معمر القذافي، والشركات الاقتصادية الإيطالية. لم تكن روما متحمسة، بعد قيام الثورة الليبية في فبراير/ شباط 2011، لإسقاط نظام القذافي، فقد اعتبر رئيس الحكومة الأسبق المثير للجدل، سيلفيو بيرلسكوني، ما جرى في ليبيا مؤامرة أوروبية، هددت المصالح السياسية والاقتصادية الإيطالية في ليبيا، ووضعت البلاد أمام حالة من الفوضى، أثرت مباشرة على أمن إيطاليا القومي، فقد خسرت روما جزءًا كبيرًا من نفوذها في ليبيا، تراجعت إمدادات النفط والصادرات الإيطالية، فضلًا عن خسارة شركات إيطالية عاملة في مشاريع البنية التحتية عقوداً كانت قد أبرمتها مع نظام القذافي. وأصبحت ليبيا مصدرًا للتهديد الأمني لإيطاليا من خلال موجات المهاجرين وارتفاع احتمالات القيام بعمليات إرهابية في العمق الإيطالي.
تبنت روما سياسة خارجية تقوم على دعم العملية السياسية، خصوصاً بعد سقوط نظام القذافي، ولكن بعد تعثرها وتدهور البيئة الأمنية في ليبيا، بدءًا من الصراع عام 2012 الذي أعقبه مزيد من انزلاق البلاد في الفوضى عام 2014، فقد شكلت الأوضاع السياسية عامل ضغط أمني واقتصادي على روما، مع ازدياد أعداد المهاجرين الذين تم تهريبهم أو الإتجار بهم، وتمكّن الجماعات المسلحة والعصابات وتجار البشر، نتيجة انهيار نظام العدالة، إلى الإفلات من العقاب واستمرار سيطرتها على تنقل المهاجرين عبر البلاد. وقد دفعت مجموعة من العوامل إلى ضرورة مراجعة السياسة الخارجية الإيطالية تجاه أزمات المنطقة، خصوصاً الأزمة الليبية، أبرزها:
غياب رؤية أوروبية واضحة للتعامل مع مسألة الهجرة غير القانونية، وتفجر خلاف داخل الاتحاد الأوروبي بين ما اصطلح على تسميتها دول عبور المهاجرين (إيطاليا، اليونان، إسبانيا، فرنسا) ودول الاستقبال (ألمانيا، الدنمارك، السويد، النرويج)، ما دفع روما إلى التغاضي عن حركة انتقال المهاجرين إلى دول شمال أوروبا، حتى لاتتحمل وحدها مسؤولية اقتصادية وأمنية.
التنافس الفرنسي الإيطالي على النفوذ والطاقة في ليبيا، بعد محاولة باريس السيطرة على الملف الليبي، من خلال الالتفاف على الدور والتأثير الإيطاليين في العملية السياسية الليبية، وهو ما دفع الساسة الإيطاليين إلى الانزعاج من لقاء رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، والعقيد خليفة حفتر في باريس في 25 يوليو/ تموز 2017.
المشكلات الاقتصادية والسياسية الداخلية في إيطاليا، فقد استخدمت أحزاب اليمين الشعبوي الايطالية في برامجها الدعائية في الانتخابات البرلمانية (مارس/ آذار المنصرم) مسألة الهجرة غير القانونية والتطرّف والإرهاب القادم من الضفة الجنوبية من المتوسط، ما يعني أن هناك تغيراً قادماً في سياسات إيطاليا الداخلية والخارجية، خصوصاً أن الأحزاب اليمينية ستكون ممثلة في أي حكومة مقبلة.
تراجع الدور الأميركي في ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية، واقتصارها على عمليات عسكرية محدودة استهدفت تنظيم الدولة الإسلامية في سرت، من دون وضع مقاربة سياسية لحل الأزمة الداخلية في ليبيا. ومع ذلك، تبقى واشنطن فاعلًا أساسيًا في منطقة المشرق العربي وشمال 
إفريقيا. وعليه انطلق الوزير ماركو متيني من افتراض أن نجاح أي تدخل إيطالي في ليبيا يرتكز بشكل أساسي على دور أميركي أكثر تأثيرًا وفعالية، وضرورة التنسيق، على الرغم من استمراريته، مع واشنطن، فقد توصل وزير الداخلية الإيطالي في زيارته الولايات المتحدة الأميركية إلى اتفاق مع مسؤولين أميركيين لتشكيل فريق مشترك، من أجل منع تحويل ليبيا إلى قاعدة خلفية لتنظيم الدولة الإسلامية، وحصوله على تفويض من إدارة دونالد ترامب في ليبيا بهدف تحقيق الاستقرار فيها.
هذه العوامل مجتمعة، دفعت روما إلى تبني وجهة نظر وزارة الداخلية التي ترأسها ماركو منيتي، منذ ديسمبر/ كانون الأول 2016، والتي تقوم على تحديد الأمن القومي الإيطالي من البوابة الليبية، وانتصار وجهة نظره داخل البيروقراطية الإيطالية المعقدة، فقد أصبحت وزارة الداخلية الإيطالية تحدد ملامح الخطاب الخارجي الإيطالي تجاه مسار الأزمة الليبية التي تقوم في سبيل ضمان أمنها القومي وتعزيزه على دعم حكومة الوفاق الليبية، وهو ما قامت به الحكومة الإيطالية من تدريب خفر السواحل والتنسيق مع حكومة الوفاق لضبط الهجرة غير القانونية وشبكات تهريب البشر، وإقامة قواعد عسكرية جنوب ليبيا بالتنسيق مع حرس الحدود الليبي، وضرورة الانفتاح على القوى السياسية والعسكرية، وتحديداً خليفة حفتر، إذ يمكن اعتبار اللقاء الذي جمع ماركو ميتيني وحفتر في بنغازي في سبتمبر/أيلول 2017 بعد أجواء التوتر والقطيعة بين حفتر وروما، مؤشرًا على تحول في موقف روما التي كانت تركز معظم تحركاتها في السابق على حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، على اعتبارها الحكومة الشرعية في البلاد.
05C60754-3195-4BA1-8C61-5E78E41A4B63
أحمد قاسم حسين

كاتب وباحث فلسطيني في مركز الأبحاث ودراسة السياسات، مقيم في الدوحة