الأردن.. خطاب الملك والحراك الوطني

17 ابريل 2018
+ الخط -
الفرصة مواتية في الأردن لتحديث حقيقي، وإصلاح جذري، وثورة بيضاء وتحقيق أمل لدى الشباب بالتغيير، هذا ما يراه الملك عبدالله الثاني في حديثه المستمر، وهو كلام ينسجم مع ما تطالب به الموجة الحراكية الشبابية التي تُبدي حتى الآن وعياً نحو الدولة ومؤسساتها، وعلى الرغم من ظهور بعض الأصوات أحياناً بسقوف مرتفعة، فقد أثبت الأردن، خلال سنوات الربيع التي شهدت شعاراتٍ كثيرةً خارقة للسقوف، القدرة على تدبرها والتعامل معها بحكمة.
يقرّر خطاب الحراك الشعبي أنه مدني وسلمي وضد الفساد والفوضى وغياب العدالة، وهو كلام يلتقي ضمناً مع ما يقوله الملك في زياراته للجنرالات والقيادات المتقاعدة والوجهاء، لكن المسافة بين خطاب المجالس الملكية مع النخب (والوجهاء) والشارع المتحصن بمظاهرة عدّة من الحضور الجماعي يبدو أنها خالية من جسور تواصل محايدة، لا تشوه الحراك، وتقدمه بالصورة الحقيقية للحكم.
ضرب الفساد وإحلال العدالة وسيادة القانون هو المطلوب ملكياً وشعبياً، ومن سيقوم بالمهمة أمر لا يعني قوى الشارع التي ترى أن البرلمان غير قادر على مهمّاته الرقابية، وأن دعوة الملك إلى ممارسة الضغط من تحت ما هي إلا نوع من المخارج التي يصنعها الملك عملياً، لإنفاذ الإصلاح، بعدما تحدّث مراتٍ نظرياً في الأوراق النقاشية عن صورة الدولة المبتغاة، والحكم ودولة القانون والمؤسسات والعدالة والمشاركة السياسية الفاعلة وقيم المواطنة، لكن كلّ تلك الأمنيات تأخر تحقيقها في ظل تباطؤ الحكومات الذي هو عنوان المرحلة، وفي ظل فشل البرلمانات في ممارسة مواقف سياسية تُحصّن مبدأ التمثيل الشعبي، وترتقي به.
في خطاب الحراك، حديث عن الدولة المدنية أيضاً، ومن منظور اجتماعي عماده القبيلة والعشيرة ومؤسسات الدولة، وكل المكونات (أحزاب وطنية ونقابات والمجتمع متعلم)، والتي حمت الدولة والحكم، ووقفت معه في أزماته، وهم في هذا الطرح يردّون على مقولات الدولة المدنية المصدّرة من نخب الغرب والمرعية أميركياً كما يرونهم، والتي سيكون أحد عناوينها مستقبلاً تمثيل الأقليات في سابقةٍ خطيرةٍ على الدولة، وهو ما تحذر منه قيادات الحراك التي ترى أن قواعد الحكم التقليدية هي مخزونه الاستراتيجي في مواجهة الصفقات المقبلة وضغوط القوى المانحة والحاكمة في المنطقة.

هنا، تصبح الضرورة ملحةً للتدبر في ما يطرح في حراك عشائر بني حسن مثلاً وفي ساحة العين في السلط وفي الكرك، وفي ظلال هذا التمترس بحصانة القانون والحرية التي كفلها الدستور، وسجل الحكم الهاشمي التاريخي البعيد عن العنف والاستبداد، ثمّة نخبٌ ترى أن الوقفات المسائية أضحت من أشكال "التعاليل" الشعبية، ويحاول بعضهم الدّس عليها، لكن النظرة الأعمق تفصح أن لا شيء من تلك الدسائس والصورة المتخيلة الموهومة، قد يؤثر على استراتيجية الاستجابة الوطنية للأزمة الراهنة التي عنوانها الاقتصاد وضغوط المرحلة.
وإذا كان هناك تفكير لدى النخب السياسية بالإحاطة بفاعلي الحراك وتطويقه، ولو من باب إظهار قدرة البعض على أن له اليد الطولى في الشارع، فهذا غير صحيح، ومتخيلٌ لا بل مستعصٍ، وهنا تكمن الحاجة لردم الهوة بين خطاب الملك وخطاب الشباب الذي أشار إليه الملك مرات، ودعاهم إلى ممارسة الضغط من تحت ليتحقق التغيير.
يعيش الأردنيون انهيار الزمن السياسي، ولدى الحراك مقولاتٌ تركز على دعم المؤسسات الأمنية ومؤسسات الدولة وحفظ البلد من أي تسويةٍ مقبلة في ظل صفقة القرن المزعومة. وهنا ينبغي على العُقّال تفهم صوت الناس أنه تعبير عن مسألة وطنية راهنة، وهو ما تحقق حين أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن قراره نقل سفارة بلاده في إسرائيل إلى القدس المحتلة، وما تلاه من خروج للشارع، فكان تعبيرا عن رأي وطني في لحظة حرجة، وهم (أي الحراكيون) في هذا السلوك يحاولون فك الارتباط بين النخب التقليدية والطامحة من الشباب بالمواقع الوظيفية العليا، وخصوصا الواهمين بأنهم ذوو قدرة على ضبط الشارع، وبين الأجهزة العميقة التي بدأت تكتشف ضعف حلفائها وانعدام قدراتهم، وتمّ الرهان عليهم سابقاً وراهناً.

لدى المؤسسات الأمنية قناعة أيضاً، على ما ييدو، بأن ما يجري في الشارع نوع من المراس الحراكي الواعي وطنياً، والمرتد عن مخلفات المدّ لسنوات الربيع العربي التي فقد فيها الشارع الثقة بكل رموز الحراك السابق، والتي حصلت على المكاسب، وتخلّت عن وعودها وخطابها الإصلاحي، مع أول إشارة بالتوزير أو التمثيل الحكومي في المؤسسات.
في الأردن اليوم مخاطر كبيرة تلف به، في محيطة الإقليمي، في مقدمتها الأزمة السورية وتداعياتها المحتملة، لكنه بلد اعتاد ذلك، وامتلك خبرة قوية في تجاوز كل المخاطر تاريخياً، وكان ذلك بالالتفاف الشعبي حول الحكم، وإجراء إصلاحات جذرية عميقة، والمجيء بنخب نظيفة للمؤسسات، وتمكين الدولة من الحضور في حياة الأفراد، وهذا لا يكون إلا بتحسين الخدمات اليومية ورفع مستوى المعيشة وتحريك السوق ووقف تغوّل المقاولين السياسيين والماليين على المؤسسات.
ختاماً، ثمّة ما يستدعي التذكير بأن الأردن يعلن أنه يتلقى ملايين الهجمات الإلكترونية شهرياً، ويضبط باستمرار خلايا إرهابية، وجاره الشمالي السوري ساحة مفتوحة للتنظيمات المتطرّفة والمدّ الإيراني. وفي الراهن الأردني، فاعلية للدولة ومؤسساتها القادرة حتى الآن على ضبط الإيقاع، وفوق هذا كله، ثمة ملك يفاجئ الجميع بأنه يقرأ كل ما يصل إليه، ويحاول جلب الدعم، ليبقى البلد مستقراً بعيداً عن مِنَن الدعم الخارجي وشروطه، لكن فاعلية المؤسسات التنفيذية تبدو ضعيفة لا تتساوق وطموح الملك الذي عبر أن غضبه يكون بسبب تباطؤ هذه المؤسسات، وعدم استجابتها للتحديات، هنا يغضب الشارع ويغضب الملك، وتصبح مواقيت التغيير واجبة.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.