الشباب المصري وصناعة الأمل

16 مارس 2018
+ الخط -
تقليديا حاول عبد الفتاح السيسي بانقلابه قتل كل منابع الأمل لدى الشباب المصري، بعدما أطلق هذا الشباب شرارة ثورة 25 يناير، شكل هذا الجيل من الشباب مشكلةً للعسكر، حينما استطاعوا أن يحرّكوا الراكد، فاستنهضوا حالةً ثوريةً، تعبر عن أحلام هذا الجيل في تغيير كبير، كان السيسي بترأسه جهاز المخابرات الحربية يعمل جاهدا إبّان حكم المجلس العسكري، وكذلك بعد قيامه بانقلابه الغادر، محاصرة الشباب، ومحاولة هزيمتهم، وإحاطتهم بحالة ممتدة من صناعة الإحباط وتصدير فقدان الأمل.
إذا أردت أن تتعرّف كيف أدار السيسي هذه المسألة، فإنه ابتدعها بشكل مبكر بعد ثورة الشباب، وبعد أن هزموه هزيمة منكرة في تدبيره الفاشل لإنقاذ منظومة حسني مبارك في "معركة الجمل"، وتخوف المجلس العسكري من تلك الثورة، حتى لو بدا يظهر غير ذلك في محاولةٍ منه للالتفاف حول هذه الطاقة الثورية التي مثلها شباب مصر، قدرة الشباب على الصمود في جمعة الغضب، وفي معركة الجمل، فضلا عن مواجهته الخطابات العاطفية للمخلوع مبارك، برفع أحذيتهم احتجاجا، إذ خالف بعضهم آراء أهليهم من الكبار، ليعبروا عن نضج في الوعي والإدراك، وعن أشواق لعملية تغييرٍ، أطلقوها أملا في ذلك التغيير الكبير لرؤية مصر الجديدة التي تليق بهم، ويليقون بها.
كانت خطة السيسي في عمليات احتواء متكرّرة، حينما اصطنع واخترع ائتلافات شباب وهمية، مغرقا أهم تكوين شبابي في هذه الشبكة الوهمية من شبابٍ جنّده ضمن تكوينات وائتلافات 
زائفة، أكثر من مائة ائتلاف اجتمعوا بدعوةٍ من المخابرات الحربية في مسرح الجلاء، في محاولته للقضاء على شباب الثورة الحقيقي، والتمويه على قدراته، ومحاولة تشويه أفعاله، ووضعه في خضم من الحيرة في محاولة التفاف خطيرة، أراد بهذا الاصطناع أن يجعل من ائتلاف شباب الثورة مجرّد كيان واحد، ضمن كيانات مائة، مموهة زائفة حتى تتوه الثورة ويتوه الثوار. ومن المؤسف حقا أن ينطوي ذلك كله على بعضهم، حتى دفع هؤلاء دفعا في أخطر وأخطأ قرار لهذا الشباب، حينما حل ائتلاف شباب الثورة باختياره.
ها هو السيسي، بجهاز مخابراته، هو الذي اصطنع "حملة تمرّد"، للقيام بعملٍ يستهدف الثورة بأسرها، حينما جند بعض ضعاف النفوس، وعملاء الشباب الذين تمسّحوا بالثورة الحقيقية، واستطاعوا أن يتكسّبوا من تجارتهم الثورية التي لم تكن إلا غطاءً لثورة مضادة، تحاول الانقضاض على ثورة يناير، من خلال تشكيلات ثورة زائفة، أرادوها هكذا، تحاول أن تطوق ثورة 25 يناير، واستطاع هؤلاء أن يقلبوا المعادلة، في إطار ترسيخ ثنائية الإخوان المسلمين والعسكر، حينما أراد السيسي بذلك من أجهزته، إلا أن تتدحرج السلطة ثانية في حجر العسكر وبشكل نهائي.
كذلك فإن السيسي هو الذي اصطنع مؤتمرات زائفة، وسماها مؤتمرات الشباب، وهي في حقيقية الأمر طبعات مزورة من شباب مزوّر اصطنعه على عينه، وجمعه من كل صوب وحدب، حتى يسرق وينشل ظاهرة الجيل الثوري، واضعا في صدارة المشهد شبابا زائفا ومزورا، في ظل صناعة إعلامية، تحاول أن تجعل من هؤلاء هم الشباب، ولا شباب غيرهم، فكان ذلك تزويرا لجيلٍ بأسره، ومحاولة وأد أمل الثورة وأشواقها في وجدان الشباب الحقيقي لثورة يناير.
وعلى الرغم من ذلك، ظل السيسي وانقلابه وأجهزته في حال رعبٍ مستمر من الشباب الناهض، شأنه شأن فرعون، يخاف من كل طفل وليد، فاتخذ قرارا بقتل كل طفل سيصير شابا محتملا، يشكل طاقة الثورة والمقاومة. هكذا كانت رؤية فرعون التي لم تختلف كثيرا عن رؤية الطاغية السيسي الذي اتخذ قرارا، في دخيلة نفسه، أن يقتص من كل شباب الثورة من كل طيفٍ ولون سياسي، لا يقتصر الأمر على شباب "الإخوان المسلمين"، لكنه يطارد الشباب الناهض في كل مكان، وفي كل اتجاه، قتلهم واعتقلهم وصفّاهم وروعهم وخوفهم، وأجبر بعضهم على الفرار خارج وطنهم، إنه يحاول أن يجفف كل منابع يمكن أن تجعل هذا الشباب يواصل مقاومته، أو يحتج بكلامه أو يصدع بكلمة "لا"، حملة ترويع وتفزيع لشباب مصر بين حين وآخر، في محاولة لتطويعهم، وتطبيع أفعالهم مع انقلابٍ خسيس وثورة مضادة دنيئة.
أراد السيسي أيضا، وقد مثلت منصات التواصل الاجتماعي صداعا في رأسه، على حد تعبير أحد هؤلاء الشباب، في واحدة من مقالاته الرائعة، وقد أصاب، في محاولةٍ لتدجين هذا الشباب وتكميم الأفواه، والكتابة على تلك المنصات للتواصل الاجتماعي، وهو ما حدا بوزير الاتصالات أن يبشر مع سيده أنهم بصدد أن يدشنوا "فيسبوك مصريا" "طبعة خاصة ملاكي" بالسيسي، فالسيسي حينما لا تعجبه الظواهر في حقيقتها يصطنع الظواهر التي تعجبه.
ما بال هؤلاء يخافون من كلماتٍ لشباب صاعد وواعد، وقد أمموا كل أمر يتعلق بالمجال العام، وكل وسائل الإعلام في تزويرٍ غير مسبوق، ومصادرة لأي معارضة، سواء بالفعل أو بالكلام، وهو لا يصيبه التعب والنصب من عمليات متتالية ومتراكمة لعسكرة المجتمع، وعسكرة الكلام، بل ومحاولة تعليم النشء في حالة من التعبئة الفجّة، والتنشئة الزائفة، فأطلق ضباطه إلى مدارس التربية والتعليم، ليعلموهم نشيد "صاعقة الجيش"، في تمثيليةٍ سخيفة، وها هو أحدهم، بشكل مبكر، يلقي على مسامع الأطفال أنه لا شرعية إلا "الشرعية المسلحة".
على الرغم من ذلك كله، يخرج الشباب في كل مرة ليصفع السيسي، وأفعاله الطاغية، فها هو 
يلقنه درسا في انتخابات الرئاسة الهزلية السابقة، في مقاطعة شاملة جامعة، ليؤكد الشباب أنه لا يمثلهم ضرورة، وأنه لا يمكن أن يكون محلا لاختيارهم أو دعمهم، قاطعوه وصفعوه، وأيضا ها هو الشباب الذي خرج بهتافٍ ثوري من شباب "الألتراس"، بما يؤكد أن تجمع هذا الشباب لا يذكره إلا بهتاف الثورة ومعاني الحرية والكرامة الإنسانية. طاش السيسي وجنت أجهزته، وساعده في ذلك مدلسون من زبانيته، يسلمون قوائم هؤلاء من الألتراس، حتى يطوقوا هتاف الحرية وشعار الكرامة، هتفت أجهزة السيسي طاردوهم واعتقلوهم، إنهم يهتفون بالحرية، قضّوا مضاجعهم بهذا الهتاف.
وها هم شباب تأتي بهم الأخبار لإسقاط لافتات رمز الظلم على من فرضه على كل فرد في هذا الشعب، أن يقيم لافتةً، فإذا بهم يسقطون بعضها، في تحدٍ واضح، وها هي حملات "لا" و"مقاطع"، والانتخابات الموازية، ويتحاكم لا يحكم وافضحوهم.. وغيرها. كل تلك الحملات، على قلتها، تؤكد أن الثورة كامنة جامعة فاعلة، وأن هذا الجيل من الشباب لن يخضع، ولن يركع، ولن يدخل بيت طاعة السيسي والعسكر، ولن يعود إلى حظيرة الاستبداد، لن يعيقه أي أمر على طريق صناعة الأمل لأجل المستقبل، ومعنى الكرامة، وإطلاق هتاف الحرية والمطالبة بالعدل.
ها هو الشباب يطل مرة أخرى يصنع الأمل، وينقض كل إحباط وتشويه، ينقض تلك الصورة التي حاول السيسي رسمها منذ ثورة يناير وموقعة الجمل تشويها وتزييفا وتزويرا، تخويفا وترويعا وتفزيعا. من هذا الركام السيسي وتطويق زبانيته وافتراءات إعلام إفكه، يخرج الشباب ليقض مضجع المستبد  وزبانيته من الثورة المضادة، وسدنة طغيانه، ليصرخ بشعار الحرية.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".