الأقصى.. معركة التحليلات والسرديات

10 اغسطس 2017
+ الخط -

ينتقد  المقال مصطلحات مستخدمة في السرديات الفلسطينية المتعلقة بموضوع الأقصى؛ وكذلك المعنى الوظيفي القريب والبعيد التي تستبطنها هذه المصطلحات المستخدمة، والمستعارة أحياناً (بدون وعيَ) من السردية الصهيونية. كما وتشكل هذه المداخلة تنبيها لأهمية المصطلح ودوره في التأثير بالوعي السياسي، والثقافة السياسية، إذ يتعلق الأمر بتغيير "محتمل" في صور الذاكرة والهوية الجماعية والأصول التاريخية والجغرافيا السياسية والديموغرافية.
لا تنفكّ السردية العربية تفاجئنا بتبنّي بعض مصطلحات السردية الصهيونية ومضامينها، مثل استخدام باحثين أو مؤرخين عرب، كثيرين، مصطلحَ الضربة الاستباقية، عند الحديث عن العدوان الإسرائيلي على مصر عام 1967، وكأن مصر عندما حشدت قواتها في سيناء كانت تنوي مهاجمة إسرائيل، فقامت إسرائيل دفاعًا عن نفسها بإجهاض الهجوم في ضربة وقائية استباقية، أو تبني هؤلاء الباحثين والمؤرخين صورة "الضحية السلبية" للفلسطينيين خلال أحداث النكبة (أي الضحية التي تستسلم وتهرب من دون مقاومة)، وهو ما يعني ضمنًا عدم تمسّك الفلسطيني وتعلقه بأرضه، على الرغم من أن النكبة هي بالتأكيد قصة بطولة أيضًا. 

أحد الأمثلة على تبني مصطلحات السردية الصهيونية في الحالة المتعلقة بالحرم القدسي الشريف، يبدو في استخدام المحللين والمؤرخين العرب تعبير "تغيير الوضع القائم" (status quo)، في إشارة إلى الإجراءات الإسرائيلية التي تهدف، تدريجيًا، إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الحرم الشريف فعليًا، من خلال سياسة المراحل التي برعت فيها الحركة الصهيونية.
يستند تبني هذا المصطلح الصهيوني إلى وقوع الطرف العربي في شراك قصور أُخرى أشدّ فداحةً، هي: التعامل بشأن المخاوف من فرض السيادة الإسرائيلية على الحرم الشريف على نحو منفصل عن عملية تهويد القدس الشرقية بالتدريج؛ إذ تعمل سلطات الاحتلال على تغيير التركيبة السكانية ومعالم المشهد والتسميات وطمس الهوية والثقافة العربية والتاريخ، لمصلحة الوجود اليهودي. فما يجري في الأقصى إنما يأتي في سياق "أسرلة" القدس، وكامل أرض فلسطين وتهويدها، وليس العكس. وإذًا يصب اختزال معركة القدس في الحرم الشريف،
وتجاهل ما يجري في أحياء القدس من معاناة وظلم وقهر وحصار في ظل سياسة الأسرلة والتهويد، مباشرةً في مصلحة إسرائيل. ومعلوم أن قرار عزل القدس عن الضفة الغربية في العام 1993 تم تنفيذه على مراحل، وعلى نحو كامل في العام 2002، وهو أساسا واحد من أشكال الحصار الاقتصادي على القدس. كما أن هذا الاختزال للمعركة في حدود الحرم الشريف (144 دونمًا) لا يتماشى أيضًا مع العقيدة الإسلامية؛ فالقرآن الكريم أوضح، بالنص الصريح، أن القداسة والبركة تشملان ما هو حول المسجد الأقصى (الذي باركنا حوله)، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكّد توسيع فكرة المباركة، لتتجاوز الأقصى إلى "بيت المقدس وأكناف بيت المقدس". صحيح أن حدود هذا المجال القداسي غير متفّق عليها، ولا يوجد حولها إجماع بين علماء المسلمين أو المؤرخين، لكن الفكرة يجب أن تؤخذ في الاعتبار والحسبان.
وهناك خطآن يتحمل مسؤوليتهما بالذات المؤرخون الفلسطينيون، لأنهم، من بين المؤرخين العرب، الذين يعيشون على الأرض. أولهما حديثهم عن محاولة "تغيير للوضع القائم" منذ ثلاثة عقود فقط، (أي منذ منتصف الثمانينيات)، غافلين عن أنه، منذ اللحظة الأولى التي سقطت فيها القدس عام 1967، لم تتوقف محاولات التهويد والأسرلة لحظة واحدة. وثانيهما تبنّيهم وترديدهم عبارةً استخدمها المحللون الإسرائيليون، وهي "التقاسم الفعلي الزماني والمكاني للحرم الشريف على غرار ما جري للحرم الإبراهيمي في الخليل". ليس هناك مجال للتقاسم، ولا حلول وسط في نظام استيطاني إحلالي، طبيعته واسمه، يدلان على ذلك. منحهم قرار التقسيم أكثر من نصف الأرض، هم الطارئون والأقلية، وتُرك لنا، نحن أهل البلاد والأغلبية، أقل من نصفها، ولم يرضوا. واليوم "نستجديهم" على خُمس الأرض فقط، ولم يرضوا ولن يرضوا. لا تقاسم حتى في الأسماء، إسرائيل فوق فلسطين، ويروشلايم فوق القدس. والأقصى إن لم يُدحروا، فمصيره محتوم.
ولهذا أعود إلى النقطة السابقة، وأطرح سؤالاً على كتابنا: هل زاروا، ولو مرةً، الحرم الإبراهيمي في الخليل بعد عام 1994؟ لو فعلوا، لعرفوا أنه ما من تقاسمٍ حقيقي في الحرم الإبراهيمي؛ فخلف هذا "التقاسم الزماني والمكاني" واقع آخر، فيه طرف مهيمن وطرفٌ
مكسور الجناح. البلدة القديمة من الخليل، ممر المصلين إلى الحرم، يعيش من تبقى من أهلها كل يوم وكل ليلة مسلسل الإذلال والمضايقات والعذاب لتفريغ البلدة منهم. وفي داخل الحرم جنود يرطنون بالعبرية، في أيديهم بنادق جاهزة وتوّاقة إلى إطلاق الرصاص. من يصلي هناك، ولو مرة، يفهم لغة الجسد: فلسطيني مهيّأ لأداء دور الضحية، ويهودي مهيأ لأداء دور الجلاد. ثم من قال إن التقاسم الزماني والمكاني هو نهاية المطاف؟ فكل ما يجري جزء من خطوة مرحلية على طريق الهدف النهائي: تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث. وما العائق الوحيد الآن إلا عدم توفر الظروف الإقليمية والدولية لمثل هذه الخطوة. أما من حيث المبدأ، فإن أغلبية الإسرائيليين، كما تفيد معظم الاستطلاعات، مرحّبون بهذه الخطوة.
الخطآن السابقان في وصف ما يجري على أرض الواقع ناجمان عن الاعتماد على المصادر والدراسات الصهيونية، والتأثر بالإعلام الغربي، إلى درجة مغالطة النفس ما تراه يُبنى من وقائع استعمارية جديدة أمام عينيها. وهنا؛ تُخلي الملاحظةُ والذاكرةُ وحسنُ المنطق (وهي أهم أدوات الباحث والمؤرخ) الميدانَ، بسبب عقدة النقص والافتتان بالمستعمر، على الرغم من الأنا النرجسية، وقصور البحث الجدي العميق، تحت سطوة الاستسهال والتكرار في ما يُذاع ويُكتَب.
هناك، أيضًا، تصوير ما يجري في القدس كأن المستهدف من السياسات الإسرائيلية هم المسلمون وحدهم من دون المسيحيين؛ والمسلمون الفلسطينيون من دون جميع المسلمين.
ختاماً؛ هناك خطأ كذلك في اختزال الصراع العربي الإسرائيلي في معركة دينية فقط، كأن الصراع كلّه ليس إلا معركة دفاعٍ عن إسلاميةِ أولى القبلتين وثالث الحرمين، مع أن المعركة حقًا هي معركة سيادة وكرامة ووجود، لا تخص الفلسطينيين وحدهم، إنها معركةُ أن يكون العرب والمسلمون أو لا يكونون، ومعركة الحق والباطل لكل بني البشر. وأختم بالقول، لاستكمال هذه الفكرة، بالتنبيه من خطورة الآسر والغواية في الدفاع عن المقدس مكاناً فقط. فواحد من أسس الثورة الفلسطينية (بغض النظر عما آلت إليه) أن قداسة الإنسان وحقوقه قيمتان مركزيتان في الصراع. وهذا يقودنا إلى كسر مفهوم القداسة الإسرائيلي؛ أنا لا أصارعك على مقدّسك، مقدّسك ليس لدينا مشكلة معه، وإنما أصارعك على حقي، بما في ذلك مقدّساتي التي من أجلها أبذل الغالي والرخيص، بما في ذلك روحي التي لن تستطيع الانتصار عليها. تحويل الخطاب العربي إلى خطاب حقوق ومقاومة كفيل بتماهي أي إنسان في هذا الكون لا يقبل القهر والظلم مع الفلسطيني وقضيته التي هي بامتياز قضية كل العرب وكل بني البشر.
73A11FF2-2A26-4F1C-9D45-97EA06ACEEFB
73A11FF2-2A26-4F1C-9D45-97EA06ACEEFB
صالح عبد الجواد

كاتب وباحث فلسطيني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، شغل مناصب عميد كلية الحقوق والإدارة العامة والعلوم السياسية، ومدير مركز الأبحاث لجامعة بيرزيت، ورئيس دائرة التاريخ والعلوم السياسية.

صالح عبد الجواد