"بجاحة" المستبد والإبادة في رواندا ورابعة

18 اغسطس 2017

كلمة السيسي في متحف ضحايا الإبادة في رواندا (فيسبوك)

+ الخط -
يزور عبد الفتاح السيسي رواندا، ويستقبله فيها رئيسها. ويزور في عاصمتها النصب التذكاري الذي يتعلق بالإبادة الجماعية الذي يعتبر رمزا لضحايا تلك الإبادة، وهم نحو مليون من البشر أو أزيد حسب تقديرات متفاوتة. أصر هذا المستبد المنقلب على أن يكتب كلمةً في سجل هذه الزيارة، وكتب كلاما يعرب فيه عن أسفه، ويحبذ فيه التعايش المشترك، ويدين فيه القتل والحض على الكراهية. ورد ذلك كله فيما كتبه، لكنه في الحقيقة ينسى أمرا مهما أنه في الأجواء نفسها التي تتعلق بمذبحة ميدان رابعة العدوية في ذكراها الرابعة، ونسي أنه في مقدمة هؤلاء الذين ارتكبوا هذه المذبحة، ضمن عمليات صناعة الكراهية التي غذّى بها إعلام إفكه بافتراءاته وأكاذيبه، وجعل هذه البيئة وسطا مواتيا من تفويضٍ اقترن بتلويحه أنه سيواجه الإرهاب المحتمل. بدا ذلك كله كأنه مقدمات خطيرة يقوم بها السيسي وصحبه، للتمهيد لمجزرته في ميدان رابعة وأخواتها في سابقاتها ولاحقاتها.
حينما حاولت أن أعنون هذه المقالة، لم أجد عنوانا يصف ما يفعله السيسي إلا "البجاحة"، فهي تعني واحدةً من حالات المغالطة الفاضحة، وقلب الأمور بشكل صريح، مستخفّا بعقول الناس، وممرّرا كلاما هو عكس المراد ونقيض الواقع، ولكنه يصدّره بلا أدنى اعتبار للمعقول أو المقبول، فالبجاحة لغةً "زوال الحياء من وجه الشخص البجيح"، وخداع الناس والضحك عليهم بالطهر والنبل، فإذا كان هذا تعريف البجاحة فماذا يمكن أن يُسمى ما كتبه السيسي، "حيث أعرب عن أسفه لسقوط الضحايا الأبرياء، مؤكدا أهمية التعايش المشترك بين مختلف أطياف البشر، وبحيث يكون التعاون والحوار والسلام هو اللغة السائدة بين مختلف شعوب العالم، معرباً عن تمنياته بألا تتكرّر مثل هذه الأعمال البشعة، وأن يعم السلام كل بقاع العالم". وكتب السيسي في دفتر عزاء الزائرين إنه يشعر بالأسى عندما يتذكّر أبطال المذبحة الجماعية ضد "التوستي" وضحاياها، وأردف: "نشدد على قدسية الروح البشرية، وعدم جواز انتهاكها،
ينبغي أن نعيش في وئام، وندعم بعضنا بعضا ونركز على الحوار السلمي". ومضى يقول: "نأمل ألا تحدث مثل هذه الفظائع الجماعية مجددا، وأن يسود السلام في أرجاء العالم". دعنا إذا نحلل بعض ما قال وكتب من كلام في ميزان مجزرة رابعة التي ارتكبها، وقتل فيها من قتل بدم بارد، حتى يتبيّن لنا أننا لم نتجنّ في الوصف، ولم نتعسف في الكلام، ولكنها الحقيقة الكبرى التي تجعل من هذا القاتل محاولا أن يغطي هذا الفعل المشؤوم الذي قاده تحت نظره في ظل رئيسٍ مؤقتٍ لم يحكم، وإنما الذي كان يحكم هو السيسي من وراء الستار، وفي ظل رئيسٍ للوزراء، هو حازم الببلاوي، يقال إنه درس القانون والاقتصاد، ونزيد صفة أخرى، يضفيها عليه بعضهم أنه ليبرالي، فماذا فعل هذا الرجل صاحب الوصف الثلاثي، الرجل السياسي ورجل القانون ومعتنق الليبرالية، فقد اتخذ قرارا في مجلس وزرائه بفض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، على الشاكلة التي رآها الجميع، وخرج من هذا المجلس أستاذ قانون آخر، كان نائبا لرئيس الوزراء، إضافة إلى حقيبة التعليم العالي، يدبج هذا الأمر الذي يعتبر جماعة الإخوان المسلمين إرهابية، وبدا المشهد خطيرا بقيام السيسي بإخراجه ودعمه، بل والتخطيط له فيما رأيناه في الرابع عشر من أغسطس/ آب من العام 2013.
بصوت جهوري، بدأ متحدث عسكري، أو شرطي، يتحدث عن عملية الفض المرتبة، ليعلن ببجاحة افتتاح فض الاعتصامين في ميداني رابعة والنهضة، وكأنه الاحتفال أو المهرجان، مصطحبا جمعياتٍ من حقوق الإنسان كما قال، ومؤكدا أن الفض سينقل على شاشات الفضائيات المصرية. هكذا كان الإعلان، وكان الفض الذي تراوح بين استخدام كل الأساليب من الضرب بالرصاص الحي والقنص، ومن حرق الخيام، ومن استخدام الجرافات، مهما كانت تحمل من جثث للبشر، ليعبر بذلك عن شكلٍ مريع يقع ضمن إرهاب سلطة الانقلاب والأمر الواقع، في التعامل مع مجزرة حقيقية، سميت زورا وبهتانا بالفض. وبدأت الأمور تتكشف، حينما يعلن أن الفض على هذا النحو كان ضرورة وأن وزير الداخلية آنذاك، محمد إبراهيم، رفض فضا متدرّجا. أيا كان الأمر، حدثت المجزرة، وسبقتها مذابح أخرى، ومعها فض آخر في ميدان النهضة، ليعبر عن فجور هذا النظام في التعامل ضمن استراتيجية الترويع والتفزيع.

من مارس ذلك هو الذي يتحدّث عن الأسف والأسى والحزن لما حدث من إبادة جماعية، خروجا على قواعد التعايش المشترك، والعمل في ظل حالٍ من الكراهية، أقول فماذا إذا فعل هو إلا أنه ارتكب تلك المجزرة بسلاحه، متورطا فيها، وبمشاركة الشرطة والجيش في مشهد ترويعي بامتياز، لم تر مصر من قبل له مثيلا، بحيث يقتل هذا العدد في عدد من الساعات، أين هو من التعايش المشترك، وقد بث كل ما يتعلق بتخوين فصيل عمل في ظله، بل أنه في حقيقة الأمر عين وزيرا للدفاع في أثناء فترة حكم الرئيس الذي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، ماذا فعل هذا الرجل في صناعة كراهيةٍ كبيئة اصطنعها، حتى يمارس قتلا وترويعا في ظل تفويض اقتنصه لمواجهة ما أسماه إرهابا محتملا. إن مقارنة تلك المفردات لا تعبر في حقيقة الأمر عن معنى البجاحة في قلب الأمور، والحديث عن كلام بأريحية والعمل بضد المقصود، بل كان منتهكا ومستخفّا بالروح الإنسانية في شبه "بروفة " لمجزرة إبادة جماعية.
اقترن كلامه هذا تقريبا بالتاريخ نفسه، فقد ارتكب مجزرته في 14 أغسطس/ آب 2013، وهو يتحدث هذا الحديث في رواندا في 15 أغسطس 2017. ماذا يريد بهذا الخطاب العجيب إلا أن يتباجح بكلماتٍ هو منتهكها، ويمارس أفعالا تقتل تلك الكلمات، وتئدها في مهدها، ويقوم بكل ما من شأنه العمل في مساحات الضد لها، فيكتب ضمن كلماته "نشدّد على قدسية الروح البشرية، وعدم جواز انتهاكها"، أي قدسيةٍ تلك للروح الإنسانية، وقد تفنن بإزهاقها بفنون القتل والاختطاف القسري والتصفية الجسدية، وإعدامات تصدر بالجملة من منظومة قضائيةٍ تابعة تسهم في مشاهد الظلم الفادحة والفاضحة. ويقول كاذبا ومنافقا من فائض الكلام "ينبغي أن نعيش في وئام، وندعم بعضنا بعضا ونركز على الحوار السلمي، نأمل ألا تحدث مثل هذه الفظائع الجماعية مجدّدا، وأن يسود السلام في أرجاء العالم، فماذا فعل بشعبه إلا أن فرّقه وبث الكراهية بين فئاته، غير مكترثٍ بنشر روح العداء والبغضاء بين مكونات الشعب الواحد. هل رأيتم بجاحةً أكثر من ذلك، وهل رأيتم أنين الكلمات حينما يكتبها، فيقلبها ويئد صدق المعاني فيها، وتكذبه "رابعة" وأخواتها، لتقول له افتريت وكذبت، تأسف لأرواح الأبرياء وأنت قاتلها! إنها البجاحة بعينها.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".