إعادة تطويع المعارضة السورية في الرياض 2

17 اغسطس 2017

من وفد المعارضة السورية في مفاوضات جنيف (19/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
تشهد القضية السورية تطوراتٍ ومتغيراتٍ خطيرةً في أيامنا هذه، في ظل انعدام أي أفق حقيقي لحل سياسي يحقّق طموحات الشعب السوري في الحرية والخلاص من الاستبداد، وتحول الصراع، في سورية وعليها، إلى تقاسم نفوذ ما بين القوى الدولية والإقليمية الخائضة في الدم السوري، التي تضع مصالحها القومية والأمنية فوق أي اعتبار، وباتت تنظر إلى القضية السورية بوصفها نزاعاً أهلياً، يحتاج إلى تبريد الجبهات، بغية تهدئة الأوضاع عبر عقد مصالحاتٍ واتفاقات وقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى مناطق خفضٍ للتصعيد، وأخرى مستثناة منه، إلى جانب مناطق السيطرة والنفوذ الأميركي والروسي والإيراني وسواها، وفق ما تقوم به هذ القوى، وتحاول تثبيته على الأراضي السورية.
والخطير في الأمر أن ما يقوم به الروس والأميركان والإيرانيون لا يهدف إلا إلى إعادة إنتاج نظام الأسد، وإبقائه جاثماً من جديد على صدور السوريين. لذلك يريدون تطويع جميع القوى السورية، لتذعن لما تتطلبه المتغيرات والتطورات الجديدة، وينسحب الأمر، على المستوى السياسي، في الطلب من المعارضة السورية وإلزامها بمخرجات هذه التطورات ومفاعيلها، والذي يتبدى في صورة النصح أحياناً، والإنارة والاستشارة أحياناً أخرى. لذلك بدأت تثار مسألة توسيع الهيئة العليا للمفاوضات، أو إعادة هيكلتها، عبر الدعوة إلى عقد اجتماع الرياض 2.
ولعل قضية توحيد المعارضة تعودنا عليها، أو عودتنا القوى الدولية الإقليمية عليها، كلما لاحت في الأفق بوادر استحقاق تفاوضي حول حل سياسي مرتجى في سورية، سواء في جنيف أم أستانة أم في غيرهما من المدن والعواصم التي عرفت تجاذباتٍ ومماحكات دولية وإقليمية حول القضية السورية. لكن الأمر نفسه يتكرّر اليوم بشكل فاقع، مع اتفاق المسؤولين الروس والأميركيين على وقف إطلاق النار في المنطقة الجنوبية، ويعاد الإلحاح عليه بالتزامن مع تحضيرات الجولة المقبلة من اجتماع أستانة الذي سيتقرّر، في ضوئه، مصير الدعوة إلى جولة ثامنة من مفاوضات جنيف.
ويبدو أن مسألة تطويع المعارضة السورية وفق سياسات الدول الكبرى ورغباتها وتوجهاتها، 
باتت الشغل الشاغل لهذه الدول، مع كل تطور جديد للقضية السورية، حيث شهدنا إبّان مرحلة المجلس الوطني السوري مع نهاية العام 2012، كيف أن القوى الدولية وضعت كل ثقلها من أجل ضرب هذا المجلس، والقضاء عليه، بل وإرغام قياداته مع ممثلين عن قواه السياسية على الدخول مع قوى وشخصيات معارضة أخرى، في تشكيل جديد أُطلق عليه اسم "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" في 11/10/2013، ولم يحدث أي تطور إيجابي في القضية السورية، حيث أن دول ما سميت "أصدقاء الشعب السوري" التي أسهمت في تشكيل "الائتلاف"، وأطلقت الوعود له، سرعان ما تخلت عن دعمه، ولم تفِ بأيٍّ من وعودها، وعلى الرغم من تحفظاتنا العديدة على تركيبة المجلس وشخصياته وأدائه، إلا أن الائتلاف الوطني لم يختلف جوهرياً عن تشكيلة سابقه، المجلس الوطني، من حيث الأداء الهزيل الذي أفقدهم تأييد الحاضنة الشعبية، وعدم مدهم جسور وشبكات تواصل مع الداخل السوري، وتركوا الأمر للعسكرة المنفلة من عقالها، ومن حيث ولاءات وخضوع بعض شخصياته لرغبات القوى الدولية والإقليمية وهيمنتها، وهيمنة قوى الإسلام السياسي عليه. وبعد نحو عام ونيف، وضعت تلك الدول ثقلها وراء توسيع "الائتلاف"، وجرى ذلك في 31/05/2013، وتوسع "الائتلاف" بدخول عدد ممن كانوا يدعون الليبراليين والديمقراطيين، الذين لم يختلف أداؤهم كثيراً عن سابقيهم، وبيّن واقع الحال أن أغلب الشخصيات التي دخلت "الائتلاف" في التوسعة لم تختلف كثيراً في سلوكها وممارساتها، عن التي كانت قبلهم، بل تحولّ "الائتلاف" إلى بؤرة للمزايدات والتجاذبات والاستعرضات الشخصية والحزبية، ولعب المال السياسي دوراً قذراً، خصوصا خلال الاستحقاقات الانتخابية فيه، ما بين كتلتي محمد الصباغ وأحمد عوينان الجربا، اللذين مارسا، بواسطة المال السياسي، أبشع الممارسات في "الائتلاف" وخارجه في شراء الولاءات والاستزلام.
ومع التحضير لمفاوضات جنيف 3، وبناء على قرارات اجتماع "مجموعة الدعم الدولية لسورية"، الذي عقد في فيينا في 30/10/2015، تشكلت الهيئة العليا للتفاوض في اجتماع الرياض للمعارضة السورية في 10/12/2015، وشكلت وفداً تفاوضياً لجولات جنيف، وخرجت ببيانٍ طالب بـ"إسقاط نظام الأسد بكافة رموزه"، وكان تشكيلها في الحقيقة توليفة جمعت بين شخصيات من "الائتلاف" وأخرى من "هيئة التنسيق الوطني"، صاحبة المواقف القريبة من موسكو والقاهرة، وشخصيات مستقلة، إضافة إلى ممثلين عن فصائل سورية مسلحة. ومع ذلك كله، جرت عدة جولات تفاوضية في جنيف، والحقيقة أنها لم تكن جولات تفاوض، بقدر ما كانت مشاورات ومباحثات بين الوفد التفاوضي والموفد الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، الذي لم يكن أميناً لمهمته، وهي العمل على تنفيذ القرارات الدولية، وخصوصا القرار 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، حيث ماطل كثيراً عبر اقتراحات بتشكيل سلال أربع، أعطى الأولوية فيها لسلة مكافحة الإرهاب، نزولاً عند رغبة وفد النظام والروس، ثم راح يطالب المعارضة بوفدٍ تفاوضي موحد، عبر ضم أعضاء من منصتي القاهرة وموسكو إلى وفد الهيئة العليا.
ولعل الهيئة العليا ووفدها التفاوضي ارتكبا خطأين، الأول قبولها بسلال دي ميستورا الأربع، والثاني قبولها الاجتماع مع وفد منصتي القاهرة وموسكو في قاعة واحدة مع وفد النظام في افتتاح الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، الأمر الذي اعتبره دي ميستورا إنجازاً كبيراً، وراح يطالب بتشكيل وفد موحد للمعارضة بمنصاتها الثلاث، وبضرورة ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، صاحب المشاريع الانفصالية عن سورية.
وبالفعل، جرى تصوير مسألة تمثيل المعارضة في وفد واحد، وكأنها الأهم من القضية السورية نفسها، وركّزت عليها الدول الخائضة والغائصة في الملف السوري، كي تعتم على حيثيات 
عملية التفاوض في جنيف ومرجعياتها، وسلطت مختلف وسائل إعلامها الضوء على خلافات أطياف المعارضة السورية، حسب العاصمة التي تؤوي مجموعة من المعارضين، بعدما حوّلتهم إلى منصة لها، في تناثرٍ وافتراقٍ لا ينمان عن موجبات تمثيل القضية السورية، وتسخير ممكنات الدفاع عنها، بوصفها قضية شعبٍ ضربته كارثة كبرى، بل انتصاراً لما تريده عاصمة المنصة، أو استثماراً شخصياً، ذاتوي ورغبوي، يجري توظيفه خدمةً لأجندة دولة المنصة التي يتموضع عليها معارضُ مفتون بصورته التلفزية، المنخورة من الداخل، والتي لا تستطيع إخفاء نرجسية فاضحة، على الرغم من تغليفها بلباس أنيق، وربطها بكرافات ذات ألوان زاهية.
ووسط زخم المماحكات حول تمثيل المعارضة السورية، جرى تناسٍ مقصود لما قد تحمله مفاوضات جنيف، إضافة إلى تناسي بعض قاطني المنصات أن الأهم هو أن على أي وفد سيمثل المعارضة في جنيف أو سواها أن يمثل القضية السورية بوصفها قضية شعب ابتلي بنظام مستبد، جلب الكوارث على البلد وناسه، ما يعني أن الأهم هو طرح مطالب الشعب السوري الذي خرج في ثورته لنيل حريته وكرامته الإنسانية، وليس الظهور أمام الكاميرات لاظهار شخصيةٍ تحابي دولاً، تمثل سلطات احتلال لسورية، والتهافت للحصول على موقعٍ للذهاب إلى جنيف، رضوخاً لمصالح الدول، أو بوصفه أمرًا واقعاً، حتى قبل معرفة تفاصيل ما سيتم التفاوض عليه.
وفي المقابل، فيما كانت الولايات المتحدة وروسيا تعملان على تحطيم الثورة السورية والضرب بطموحات الشعب السوري في التغيير السياسي، من خلال التركيز على إدارة الملف السوري، وجعل الوضع في سورية يسير نحو مزيدٍ من التفتت والتعفن والانقسام، حدث تغير كبير لصالح النظام من التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية إلى جانب النظام وحلفائه في نظام الملالي الإيراني ومليشياته الطائفية المتعدّدة الجنسيات، بدءاً من 30/09/2015، وباتت روسيا اليوم القوة المهيمنة على القرار السياسي والعسكري، وبسطت نفوذها ومكّنته من خلال قواعدها العسكرية الجوية والبحرية في ما سميت "سورية المفيدة"، وراحت تصب حمم صورايخ مقاتلاتها وقنابل قاذفاتها على الحاضنة الشعبية للثورة، وعلى ما تبقى من فصائل الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية. وارتكبت روسيا، إلى جانب قوات النظام ومليشيات نظام الملالي الإيراني، أبشع الجرائم ضد المدنيين السوريين، حيث استهدفت البنى التحتية لمناطق سيطرة المعارضة، من مدارس وأسواق ومراكز الدفاع المدني والمستشفيات والأطقم الطبية ومحطات توليد المياة والكهرباء، واجترحت "اجتماعات أستانة" بوصفها مساراً سياسياً موازياً لمسار مفاوضات جنيف، وحاولت أن تجعله بديلاً عنه، وتمخض عنه اتفاق "مناطق خفض التصعيد"، وتمكنت أخيراً من الاتفاق مع الولايات المتحدة على اتفاق وقف إطلاق النار في المنطقة الجنوبية.
اليوم، وبعد أن تمّ تصوير الثورة السورية بأنها مجرد نزاع داخلي، أهلي طائفي، وبعد أن
جرى تمكين النظام من إعادة السيطرة على مناطق عديدة في سورية، وتقاسم النفوذ ما بين الروس والأميركان والإيرانيين، ومحاولات لإعادة فرض الأسد على السوريين، بعد ذلك كله، يأتي الدور على إعادة تطويع المعارضة من طرف هذه الإرادوية للنظام العالمي، لكي توافق على هذه العملية. وبالتالي، سواء جرى الأمر عبر المشورة أو النصح من بعض "الأصدقاء" بإجراء تغييرات جوهرية في الخطاب والسلوك، والدعوة إلى عقد مؤتمر الرياض 2، بذريعة توسيع المشاركة في الهيئة العليا للتفاوض، عبر إدماج أصحاب المنصات أو سواهم فيها، فإن حقيقة الأمر تتعدّى ذلك إلى عملية تطويع للمعارضة، لكي تنساق مع إرادات الدول، خصوصاً وأن بعض شخصياتها منساق من زمن زمن بعيد مع إرادات الدول. وهنا المأزق الأساسي، المتمثل في أن أحداً لا يمكن أن يتصور القضية السورية خارج الكوكب، وخارج التأثيرات الإقليمية والدولية، بل بقدر ما هي قضية طموحات شعبٍ ثار للخلاص من الاستبداد وبناء سورية المستقبل، بقدر ما هي قضية دوّلت، وأجهضت بإرادات دول وقوى عديدة، لكن الخطير أن أغلب شخصيات المعارضة لم تسخر علاقاتها واتصالاتها مع القوى الدولية والإقليمية لصالح قضية الشعب السوري وثورته، بل تحولت إلى مجرد مجموعةٍ من الموالين لهذه الدولة أو تلك، أو عفوا لهذا الجهاز الأمني لهذه الدولة أو تلك، الأمر الذي يعبر عن بؤس حقيقي للمعارضة والمعارضين الذي تصدّروا المشهد السياسي. ولن يغفر الشعب السوري لهؤلاء، كما لن تقف القوى الحية في الشعب وفي المعارضة الصامتة، وهي الكتلة الأهم، أمام ما يخطط لهم ولبلادهم. ويعطينا التاريخ السوري أمثلة كثيرة على من باعوا أنفسهم، وعلى من وقفوا في وجه المخططات الدولية والإقليمية، وظلوا مخلصين لقضيتهم حتى الثمالة.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".