الجوهري في سحب إسرائيل جنسية عزمي بشارة

12 اغسطس 2017
+ الخط -
في كتابه "من يهودية الدولة حتى شارون" بشأن تناقض الديمقراطية الإسرائيلية، ناقش الدكتور عزمي بشارة طبيعة نظام الحكم في إسرائيل وجوهره، بناءً على تعريف إسرائيل نفسها دولة "يهودية وديمقراطية". وبناءً على تحليله، خلص إلى الاستنتاج أن الصهيونية، وليست المواطنة، كما تحدّد النظرية الديمقراطية، هي الأساس الذي بنيت وتشكلت عليه الديمقراطية في إسرائيل. وكما جاء بكلماته "الصهيونية، وليست المواطنة، هي وعاء الديمقراطية اليهودية، وهي عائق تطورها في آن، فهي في ساعات الأزمات لا تعدو كونها ديمقراطية داخل القبيلة" (صفحة 25). يمكّننا هذا الاستنتاج من فهم طبيعة وجوهر نظام الحكم القائم داخل إسرائيل وتحليلهما، وهو بالتالي يساعد أيضا على تعزيز ماهية علاقة الدولة اليهودية مع مواطنيها العرب وتوضيحها، وحدود هذه العلاقة، حيث يثير تعريف إسرائيل نفسها دولة "يهودية وديمقراطية" تساؤلات جوهرية عديدة بشأن نطاق حقوق المواطنين العرب، ومدى الحماية التي توفرها الدولة لهم داخل إطار المواطنة.
انطلاقا من هذا التشخيص لجوهر النظام الإسرائيلي وطبيعته، يمكن تناول (وتحليل) سياسات وممارسات إسرائيلية عديدة، تعنى بجوانب مختلفة، وتم تطبيقها على فترات زمنية متباينة، والمرتبطة مباشرة بعلاقة الدولة بمواطنيها العرب. في هذا الصدد، يمكن التطرّق مثلا لقانون المواطَنة والدخول إلى إسرائيل، والذي سنته الكنيست في عام 2003، ويفرض حظرًا جارفًا على لَمّ شمل العائلات المكونة من الفلسطينيين المقيمين في المناطق الفلسطينيّة المحتلّة وأزواجهم/ زوجاتهم من الفلسطينيّين المواطنين داخل إسرائيل (يسري القانون على المواطنين الفلسطينيّين فقط). وقد اعتمدت الكنيست، وهي السلطة التشريعية، وتلتها السلطة القضائية، المتمثلة بالمحكمة العليا الإسرائيلية، والتي أقرت القانون في مناسبتين مختلفتين بعد تقديم التماساتٍ طعنت في دستوريته، في تبريرها القانون على وجود دوافع واعتبارات "أمنيّة"، مفادها إمكانية شروع الأزواج والزوجات طالبي لمّ الشمل من المناطق الفلسطينية المحتلة بعمليات ضد إسرائيليين.
على الرغم من اعتماد الكنيست والمحكمة العليا على التبريرات الأمنية، وغيرها من التأويلات 
القانونية المختلقة، كما يظهر من نص القرارات المفصلة التي ردت الطعون، وأقرّت دستورية القانون، ومنها أن الحق في الحياة العائلية لا يلزم بالضرورة حق إدخال "الأجنبي" إلى البلاد، وذلك لتفادي حالةٍ يتضارب فيها هذا الحق مع مبدأ سيادة الدولة (الأمر غير قائم عند الحديث عن المواطنين اليهود، والذين يمكّنهم وفق قانون العودة من عام 1950 من إحضار عوائلهم إلى إسرائيل، ومنحهم المواطنة فورا ومن دون قيد)، تدعم مراجعة فاحصة للقانون ولقرارات المحكمة العليا الاستنتاج أعلاه بأن الصهيونية وقيمها يشكلان إطار الديمقراطية الإسرائيلية، الأمر الذي ينتج بالضرورة وجود تصنيفاتٍ تراتبية للمواطنة، تمنح من خلالها مستويات مختلفة من حماية حقوق الإنسان مجموعات مختلفة من المواطنين داخل إسرائيل. اعتمادا على هذه التراتبية، يتيح القانون الإسرائيلي للمواطنين اليهود ممارسة الحق في الحياة العائلية داخل إسرائيل، عن طريق اختيار أزواج لهم، من دون أن تفرض السلطة التنفيذية عليهم أي قيود تذكر، إذ يكاد الحق أن يكون مطلقا. في المقابل، نجد أن الحق في الحياة العائلية للمواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل لا يتضمن تنفيذه، داخل حدود إسرائيل، تلك الحالات التي يحظرها قانون المواطنة.
المبدأ عينه والنمط التفكيري ذاته ينطبقان بالضرورة أيضا على الإجراءات التي بدأت بها الحكومة والكنسيت الإسرائيليتين، تمهيدا لمصادرة المواطنة وسحبها من الدكتور عزمي بشارة، والتي أعلن عنها أخيرا وزير الداخلية الإسرائيلي (يجدر التنويه هنا بأن بشارة أعلن مسبقا تنازله عن هذه الجنسية، فوظيفتها عنده البقاء على أرض الوطن، منتصرا بذلك لفكرته بالانتماء الفلسطيني للوطن والانتماء العربي الأشمل). التبرير الظاهري لهذه الخطوة مرتبط، كما تدّعي إسرائيل، بوجود اعتبارات "أمنية" مفادها أن عزمي بشارة ضالع في تقديم العون والدعم للمقاومة ضد النظام الصهيوني، وبالتالي توجيه اتهامات خطيرة له، مثل الخيانة ودعم العدو، وهي من أخطر المخالفات الجنائية في كتاب القوانين الإسرائيلي. ناهيك طبعا عن مدى هشاشة الاعتبارات الأمنية التي تدّعيها إسرائيل، لا يمكن تبرير هذه الخطوة، في هذه المرحلة بالذات، بذرائع واعتبارات أمنية، ولا سيما بعد انقضاء أكثر من عقد على مغادرة بشارة القسرية البلاد.
لقد احتاج تنفيذ سحب مواطنة بشارة إلى قانون خاص به، وإجراء تعديل قانوني مركّب تمثل 
بتغيير واحدٍ من أهم مبادئ القانون الجنائي، والذي يلزم حضور المتهم محاكمته، ويمنع إجراء محاكمة بغيابه. وخلافا للتبريرات الأمنية الواهية التي تعتمدها إسرائيل لتبرير خطوتها، يرجع السبب الرئيسي وراء بدء إجراءات سحب مواطنة بشارة في هذه المرحلة بالذات بالأساس لمبدأ التراتبية في مفهوم المواطنة، والذي تسعى إسرائيل إلى تكريسه بشكل ممنهج، ولا سيما في العقدين الأخيرين، بفعل سيطرة اليمين الإسرائيلي الجديد، وهيمنته المطلقة على الحلبة السياسية. باعتقادي، كما هو الحال بتشريع قانون المواطنة، وغيرها من السياسات والممارسات الإسرائيلية التي تمس بالمواطنين العرب، وهي كثيرة ويصعب حصرها هنا على عجالة، فإن ما يقف على المحك فعليا هو فكرة وضع إسرائيل حدودا جديدة للمواطنة (لغير اليهود) تشكل الصهيونية بمعانيها المتجدّدة إطارها الأوسع.
بهذا المفهوم، تفصح إسرائيل لمواطنيها العرب بأن مفهوم المواطنة الممنوحة للمواطنين لهم ليست أكثر من مِنّة تمنحها لهم. وبالتالي هي مشروطة بتقديم الولاء لإطارها الأوسع، حيث يمكن سلبها أو تقليص إطارها وحدودها، في حال خروجهم عن إطارها الأوسع، أو تحدّيه، أو حتى الاختلاف معه. إذن، ليس وجود العرب على أرضهم وحقهم التاريخي عليها هو أساس المواطنة الممنوحة لهم، بفعل تحولهم لأقلية قومية داخل دولة إسرائيل، نتيجة وبفعل التطور السياسي الذي حصل في فلسطين منذ عام 1948، إنما هي "هبة" تمنحها لهم قبيلة الأسياد الحاكمة، وهي بذلك تستطيع إبطالها أيضا.
وإن كانت الإجراءات والتطورات المذكورة جديدة نسبيا، إلا أنها تعبر وتعكس بقوة فكرة راسخة في الفكر الصهيوني، مفادها أن المواطنة، بمعناها المتداول والمعروف (عضوية ومشاركة كاملة في النظام السياسي)، محصورة ومقتصرة على اليهود، وإنه لا شعب سوى الشعب اليهودي والسيادة محصورة فيه. تثبت إسرائيل، بفعل نيتها سحب المواطنة من بشارة، صواب أفكاره التي كتبها وتحدث عنها قبل أكثر من عقد.
AEA20780-62A5-473B-AE1C-A99CCB13F3DA
AEA20780-62A5-473B-AE1C-A99CCB13F3DA
علاء محاجنة

كاتب ومحام فلسطيني مستقل ومقره القدس، متخصص بقضايا الاستيطان.

علاء محاجنة