ترامب و"تآمر" وسائل الإعلام

18 يوليو 2017
+ الخط -
دخل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بخطى ثابتة قمة العشرين في هامبورغ في 7 يوليو/ تموز الجاري. راح يوزّع الابتسامات، ويلقي التحيات يميناً وشمالاً، على الرغم من حال الجفاء وانعدام الثقة الذي يسود علاقته بالمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل التي يستضيف بلدها القمة. والتقى الرئيس الأميركي، لأول مرة منذ انتخابه، نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وعقد معه لقاءً على هامش القمة دام نحو ساعتين، أثمر اتفاقاً مثيراً لوقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية، وغيره من اللقاءات الثنائية. وعلى الرغم من ذلك، فان مشكلة ترامب مع الصحافيين ووسائل الإعلام مستمرة وإلى تصاعد، وتحديداً مع الصحافة في بلاده. وباتت حساسيته عاليةً إلى درجة أن الإعلام أصبح بمثابة كابوس له.
لم يكن رجل الأعمال واسع الشهرة، والذي أصبح اليوم سيد البيت الأبيض، سنين طويلة تحت الأضواء، ولم يكن الحاكم بأمره وسيد قراره، فهو لم يعتد على الأسئلة والمساءلة، وعلى من يراقب سلوكه العام (والخاص). وبالتالي، لم يكن عرضة للإحراج والانزعاج، فتراه اليوم لا يتوانى عن مهاجمة الصحافيين، ورشقهم بشتى أنواع الأوصاف، كما فعل في أثناء الحملة الانتخابية، وكما يفعل بعد دخوله البيت الأبيض. إذ يقاطع مثلاً العشاء السنوي الذي يقام عادة تحت رعاية الرئيس وحضوره لمراسلي البيت الأبيض. وكان كثيرون قد اعتقدوا أن هذا السلوك سيتغير، بعدما أصبح المرشح الشعبوي رئيساً لأقوى دولة.
وعلى الرغم من الهدنة التي التزمها الإعلام الأميركي غداة انتخابه، إلا أن ترامب لم يأبه لذلك، وهو مستمر في سلوكه هذا، معطياً الانطباع وكأنه استعاد حلبة المصارعة التي اعتلاها مرة. ويرتفع منسوب الحساسية، خصوصاً مع شبكتي التلفزة "سي إن إن" و"إن بي سي"
والصحف الليبرالية أمثال "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" التي لا تخفي استياءها من سلوكه، وتواجهه بنشر الأفعال وتوثيق الحقائق. وتزداد تهجماته مع الوقت، وتأخذ طابعاً سوقياً أحياناً، ما يؤثر، بدون شك، على مكانة الرئاسة وسمعة ساكن البيت الأبيض، إلى درجة أن هناك من يعتبر أن الشتائم التي يكيلها لبعض الصحافيات تقترب من التحريض على العنف ضد الجسم الصحافي.
ترامب مسكون أيضاً، على ما يبدو، بهاجس مؤامرة ما تحاك ضده! فقد أطلق في شهر يونيو/ حزيران الماضي، 121 تغريدة، أي بمعدل أربعة في اليوم، ثلاث منها تناولت مسائل سياسية فعلية. أما الباقي فكلها تهجماتٌ وانتقادات للصحافة ووسائل الإعلام. أليس هذا أمراً مثيراً فعلاً في سلوك رئيس دولة عظمى؟ وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بصحة وجهة نظر الخبير في عالم "الماركيتينغ"، ست غودين، الذي يعتبر أن "النجاح في البيع أو التسويق لا يقوم على السلعة التي تحسن إنتاجها، وإنما في قدرتك على الإغراء عبر الحكاية التي ترويها".
إنه واقع غير مسبوق في تاريخ الرؤساء الأميركيين وعلاقتهم مع وسائل الإعلام، يثير دهشة دول العالم واستغرابها، ويحرج بعض الرؤساء الذين التقوا ترامب. فالمشهد أصبح شبه يومي، فما أن تقوم القنوات بتكذيب ما صدر عن الرئيس، أو توضيحه، حتى تجد نفسها في اليوم التالي أمام تهجمات واتهامات جديدة منه. وبطبيعة الحال، لوسائل الإعلام أخطاؤها وكبواتها هي الأخرى، مثل التقرير الذي عرضته أخيراً قناة "سي إن إن"، وأثار ضجة عن تواصل أحد مساعدي ترامب مع مسؤولين روس خلال الحملة الانتخابية، ثم اضطرت إلى سحبه، لعدم دقته وطرد ثلاثة من المسؤولين عنه. أو بعض مقدمي الأخبار أو البرامج الذين يلجأون إلى استعمال مصطلحاتٍ غير لائقة، تعطي ترامب المبرّر للرد بشكل أكثر قساوة، ناسياً، هو الآخر، أن لكلامه وقعاً أكبر بكثير.
طبعاً، الصحافيون ووسائل الإعلام لا يتهاونون في الرد. فهذا مورين دوود يكتب في "نيويورك تايمز" إن "الولايات المتحدة يحكمها محرّر صفحة أخبار الثرثرة"، فيرد ترامب هازئاً ومتهماً الصحف بأنها من تفبرك الأخبار الكاذبة. ويصعّد متهكماً أن بإمكانه استخدام إحدى الصحف الفضائحية سوطاً لمعاقبة الخصوم.
يزيد استخدام سيد البيت الأبيض هذه التعابير من استهجان قسم كبير من الرأي العام، ويزيد من نسبة مشاهدي بعض المحطات وقراء الصحف الليبرالية. وفي المقابل، يعكس ذلك جزءاً من
الصورة فقط، إذ يلقى الهجوم الذي شنه ترامب على "سي إن إن"، واصفاً إياها بـ "صحافة القذارة" تصفيقاً حاراً من جمهور احتشد لسماعه من المخضرمين والناشطين في منظماتٍ وجمعيات دينية. أكثر من ذلك، وعلى الرغم من انتقادات وجهها له الديموقراطيون، وكذلك الجمهوريون من حزبه، لم يتراجع ترامب عن انتقاده عملية التجميل في الوجه التي أجرتها مقدمة البرامج على قناة "أم إس إن بي سي"، ميكا بريجينسكي، مؤكداً أنه "يستعمل محطات التلفزة بطريقة رئاسية حديثة"!
وتستمر معه حكاية المؤامرة: "عارضوا وصولي إلى البيت الأبيض بكل الوسائل، ولكني فزت، وليس بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً". يعطي ترامب الانطباع وكأنه يرتاح ويكسب معنوياتٍ، عندما يمارس دوره على طريقة الملاكم على الحلبة.. ربما يشكل هذا تعويضاً عما لم يتمكّن بعد من تقديمه للأميركيين، إذ ما زال مشروع إعادة النظر في الضمان الصحي الذي أقره سلفه باراك أوباما عالقاً في مجلس الشيوخ، والإصلاح الضريبي الذي بشر به لم يبصر النور بعد.
ولكن ترامب طبعاً مستمر في منصبه رئيساً للولايات المتحدة حتى إشعار آخر. التحقيق في مسألة التواطؤ مع القيادة الروسية خلال الحملة الانتخابية عملية طويلة ومعقدة، على الرغم من أنه اعترف عملياً بذلك، على هامش قمة العشرين في هامبورغ. الوحيدون القادرون على إزعاجه وقض مضجعه هم نواب وشيوخ حزبه الجمهوري (فرض نفسه عليهم)، فهم مذعورون من سياسته، وفاقدون أي قدرة على ضبط إيقاعه وخطواته المتهورة التي تميد الأرض من تحت أقدامهم، كما أن الود مفقود أساساً بين الطرفين... ولكنهم هم أنفسهم عاجزون أيضاً عن الوقوف أمام تيار اليمين الجارف داخل صفوف الناخبين الجمهوريين، ولا قدرة لهم، بالتالي، ولا مصلحة في تحدي ترامب أو مواجهته.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.