تونس وأزمة الخليج والاستقطابات

18 يونيو 2017
+ الخط -
تغير المشهد السياسي في ليبيا، أخيرا، مرجحا نسبيا وإلى الآن كفة الجنرال خليفة حفتر، الذي ما كان له أن يحقق تلك الانتصارات، لولا الدعم الإماراتي الذي تلقاه، وهذه ليست مجرد تهمةٍ يوجهها له خصومه، بل حقيقة وقفت عليها الأمم المتحدة في تقريرها الأسبوع الفارط، وجاء على اختراق أبوظبي قرارات المنظمة الأممية القاضي فرض حظر على تزويد الأطراف المتقاتلة بالسلاح. في هذه الأثناء، بدأت تصريحات القيادات العسكرية الليبية المحسوبة على مجموعة حفتر تأخذ منحى تصعيديا تجاه تونس إلى حد التحرّش بها، وأساساً حزب حركة النهضة التي يعتبرها حفتر وأتباعه سبب الإرهاب، ويتهمونها بالتورّط في الاغتيالات الداخلية، علاوة على تدخلها المباشر في الحرب الأهلية الليبية. يتضاعف صدى تلك التصريحات والتحرّشات بتونس، وجرّها إلى مستنقع حرب إقليمية أخرى، قد تندلع هذه المرة في منطقة المغرب العربي، في أجواء مما يشبه دقّ طبول حربٍ تكاد تنهش منطقة الخليج، على الرغم من استبعاد وزير الخارجية السعودية، عادل الجبير، هذه الإمكانية.
سعت قيادات عسكرية وسياسية ليبية، في الأسابيع القليلة الماضية، إلى توظيف منصات إعلامية تفوح كراهية واستبدادا، متناغمة تماما مع ما يحدث في دول مشرقية أخرى، غير عابئة بالحد الأدنى من المروءة والأخلاق. قدمت "وثائق" و"حججا" و"براهين"، سرعان ما بان زيفها وبطلانها، فقد بدأت تتهاوى تدريجيا، حين تدخلت السلطات القضائية المستقلة التونسية، وأوضحت مسائل كان بعضهم يستثمرها، على غرار تحويلات مالية تلقاها ملحق عسكري قطري في تونس خلال السنوات الماضية، فقد بين الناطق باسم القضاء التونسي أنه تم حفظ الملف، إذ ذهبت تلك التمويلات إلى مخيمات لاجئين في أقصى الجنوب التونسي، حين اندلعت الحرب الأهلية في ليبيا. كما برأت المحكمة، في الأسبوع نفسه، جمعية تونس الخيرية من تهمة تمويل الإرهاب، أو أي شبهاتٍ ماليةٍ أخرى، في ظل تحرش بعضهم بها، وحسبانها على جمعية قطر الخيرية.. إلخ.
هناك مثل قديم كان نشطاء الحركة الطلابية يردّدونه في السبعينيات، مفاده بأن الأمطار تنزل 
في موسكو فيفتح التونسيون مطرياتهم في العاصمة. ها هو الأمر يتكرّر تقريبا. هدير الحصار المفروض على قطر يرتفع صداه، وهو الذي تفصله عن تونس آلاف الأميال. كما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بمناوشاتٍ وملاسنات بين هذا الفريق وذاك، حتى خيل أن تونس دولة جارة للبلدان الخمسة: السعودية والإمارات والبحرين ومصر وقطر، وتلك هي طبيعة النخب التونسية المفرطة في انفعالاتها.
يتذكّر التونسيون أن بلادهم مرّت بأزماتٍ داخلية حادة، لعل أهمها الاغتيالات التي نالت من رموزٍ نضالية وطنية. ولكن، لتونس هشاشةٌ خاصةٌ لما يجري في محيطها، فقد عرفت ما يشبه هذا المناخ، حين وقع الانقلاب المصري. ولم تسلم تونس أيضا من ذبذبات المناخ الخارجي وتداعياته بعد محاولة الانقلاب التركي الفاشل. موقع تونس الرمزي باعتبارها الاستثناء العربي الوحيد الذي صمد من بين دول الربيع العربي، وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية مع مصالح أطراف داخلية يجعلها عرضةً لمثل هذه الارتدادات، حتى لو وقعت بعيدا عنها. إنها جاذبة لتلك الأصداء بشكل استثنائي مثير.
السرديات التي يتم تداولها خلال الحالات المذكورة أن الإسلام السياسي انتهى، وأن "النهضة"
 مهدّدة بالانقراض ما بين السجن والمنافي. وتقدّم عدة مسوغات لهذا السيناريو المرعب. ولكن هؤلاء يتغافلون عن أن الحالة التونسية مختلفة تماما عن الحالات الأخرى، فقد تمت دسترة الحقوق، بما فيها التي تتمتع بها حركة النهضة وخصومها، فضلا عن مسار التوافق الذي ارتضته جل النخب، وحرص المجتمع المدني على صون التجربة واستبعاد العنف، واستحق عن ذلك جائزة نوبل للسلام. سيبدو كل انحرافٍ عن هذه الثوابت ضد منطق التاريخ. لا يعود الأمر إلى افتقاد المؤسسة العسكرية التونسية تراث نظيرتها المصرية، بل إلى طبيعة النخب ذاتها، وما تحقق من مكاسب، يبدو من المستحيل التنازل عنها، حتى لو استفادت منها "النهضة"، الخصم لعديدين من هؤلاء.
في ظل إعادة سلسلة الاتهامات الموجهة لحركة النهضة، ومحاولة جرّ تونس إلى الاصطفافات الإقليمية الجارية، ستكون لكل ذلك انعكاسات خطيرة على التوافق السياسي في البلاد. وقد تدفع الفرقاء السياسيين إلى خوض صراعاتٍ مؤلمةٍ لا قدر الله. كنا، في أحيانٍ كثيرة، ننقد "التوافق"، وقد يتهمه بعضنا بأنه مغشوش، غير أننا بتنا أكثر اقتناعا في ظل التطورات الحاصلة عربيا، واستتباعاتها الداخلية بأن هذا التوافق سيكون صمام "الأمان". لن تكون تونس لبنان مرة ثانية، ولكنها لن تكون في منأىً عن انعكاس ما يدور على حدودها وفي إقليمها العربي عموما. تحصين الجبهة الداخلية لن يتم بمجرد تأكيد التوافق. ولكن بالمضي في حزمة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، حتى تظل التجربة التونسية ذات جاذبية يدافع عنها أبناؤها قبل أحرار العالم.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.