03 أكتوبر 2024
في المشهد الخليجي
أكثر من مجرد سحابة صيف ما يتشكّل الآن في أجواء الخليج العربي، من حيث نتائجه وتداعياته، وإذا استعرنا تعبيرات خبراء الأرصاد الجوية، فإنّ ما يتجمّع في سماء المنطقة بأسرها هو سحبٌ بركانيةٌ متراكمة، تنذر بأمطار غزيرة ورعد وبرق يتجاوز حدود الخليج، وتساهم في تشكيل محاور وقوى وتحالفات إقليمية جديدة، تتجاوز ما شهدناه سابقًا، وتعيد تشكيل الخريطة السياسية على أسس مختلفة.
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أنّ الأهداف الحقيقية لحصار قطر وقطع العلاقات معها لم تُعلن بعد من الدولتين الراعيتين هذا الإجراء، وأنّ الضجيج الإعلامي الذي أحاط بهذه العملية، وما رافقه من إسفاف وتزوير، يجعلان من الصعب على المراقب إدراك الهدف الحقيقي لمن قاموا به، مع إعلان قطر عن جهلها بدوافعه، ما يُفسح المجال لتكهنات مختلفة حوله تبتعد أو تقترب منه، لكنّي أظنّ، وليس كل الظنّ إثماً، أنّ ما أُثير عن تمويل الإرهاب وقائمته التي شكّكت بها الأمم المتحدة، وعن بعض السياسات الخارجية، بعيد عن الحقيقة؛ فقد شاركت قطر التحالف العربي بقيادة السعودية موقفها في اليمن، وأرسلت جزءًا من قوتها العسكرية إليه، على الرغم من التباين في موقف الحلفاء من الأطراف المحلية المتحالفة معها، وخصوصًا حزب التجمع اليمني للإصلاح والقوى الجنوبية. كما أنّ الموقف من سورية والعراق لم يكن متباعدًا كثيرًا، ولعلّ نقطة التباعد الرئيسة في السياسة الخارجية تمثّلت في الموقف من النظام المصري والربيع العربي. لهذا، قد يكون السبب الرئيس في انزعاج السعودية والإمارات يتعلّق
باعتبارات حول النموذج الخليجي الذي يسعيان إليه، ويتطلب من المواطن الخليجي خصوصا، والعربي المقيم عموما، طاعة مطلقة لولي الأمر الأعلم بشؤون البلاد والعباد، والبعيد عن أي أداةٍ للمحاسبة أو النقد أو الرقابة، وغياب أي مظهر للديمقراطية أو الليبرالية السياسية، وحصر اهتمامات المواطنين والمقيمين بالشؤون المعيشية اليومية. ولعلّه من هنا جاء التركيز على إغلاق قنوات إعلامية، مثل "الجزيرة" التي تعنى بالحفاظ على هامش يصغر أو يكبر للرأي الآخر، أو مراكز بحث وتعليم أُقيمت في الدوحة، مثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بل وحتى مؤسسات أميركية ذات طابع أكاديمي أو ليبرالي، مثل راند وبروكنز. فهذه كلها عدوى ضارة ينبغي عدم السماح بنقلها، وما ينطبق على الرعية ينطبق على الأشقاء في مجلس التعاون الخليجي، حيث ينبغي منع اتباع سياسة داخلية أو خارجية مستقلة، بغض النظر عن حجم الاختلاف فيها، كبر أو صغر، كما يعبّر عنها جورج أوريل في روايته 1984.
تجاوز الارتباك في إعلان الهدف إلى خللٍ كبير في تقدير الموقف ومعرفة ردّات الفعل عليه، وما يمكن أن ينجم عنه من مواقف أو رسم لسياساتٍ ومحاور جديدة، تعيد تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة. ففي داخل مجلس التعاون الخليجي نفسه، لم تقطع الكويت وعُمان العلاقات مع قطر، ولعلّ الدافع الرئيس لذلك عدم رغبتهما بألا تكونا نسخة طبق الأصل عن الأخ الأكبر. مع حرص الجميع، بما في ذلك قطر، على توطيد أواصر التعاون والتنسيق بين دول الخليج كافة. وبذلك، بدت الجبهة الداخلية لمجلس التعاون الخليجي ذاته غير متسقة الأهداف، فيما يتعلّق بإيقاع العقوبات على قطر وحصارها.
في المشهد العربي والإسلامي والدولي، بدا ذلك أوضح. لم يقطع العلاقات مع قطر سوى موريتانيا وموريشيوس التي دأبت دومًا على التصويت مع إسرائيل في المنظمات الدولية، أمّا الأردن فقد اكتفى بإغلاق مكتب قناة الجزيرة وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، في حين انحازت الدول الأوروبية، عبر وزير الخارجية الألماني، إلى الموقف الرافض للحصار والداعي إلى الحوار.
ثمّة خلل واضح في إدراك الموقف الأميركي وفهمه. لم يدرك متخذو قرار الحصار تعقيدات المشهد الأميركي، وربما توهموا أن إشارةً من الرئيس دونالد ترامب، لمحوها في وقت سابق، تعني ضوءًا أخضر لهم لتغيير الواقع في الخليج. لكن الوقائع جاءت من الجانب الأميركي لتثبت خواء هذا التحليل، ولتبرهن على عدم وجود قرار أميركي مجمع عليه في الإدارة الأميركية، وضمن دوائر الخارجية والدفاع، وهذا يفسّر حجم التناقض في التصريحات، فالواضح أنّ أوضاع ترامب الداخلية تحدّ من قدرته على فرض رأي في المشهد الخليجي، يسمح للسعودية والإمارات بالتمادي في حملتهما.
ثمّة خلل آخر أكثر فداحة يتعلّق بعدم القدرة على قياس نتائج هذا الإجراء على الاستراتيجية العامة للدول التي قامت به، إذ من المفترض، وبعد قمة الرياض أخيرا، أن يسعى المجتمعون إلى تشكيل محور إسلامي (سنّي) لمحاربة الإرهاب (تنظيم داعش وجبهة النصرة)، وأن يواجهوا ما أسموه خطر التمدّد الإيراني (الشيعي) في المنطقة. رفضت إيران الحصار، وأعلنت عن استعدادها لتخصيص ثلاثة موانئ إيرانية لتزويد قطر باحتياجاتها، وفتحت المجال الجوي الإيراني لعبور الطائرات القطرية. في حين قرّرت تركيا إرسال قوات إلى قاعدة عسكرية لها في قطر. وبهذين الموقفين، إضافة إلى عدم حصول إجراءات الحصار والمقاطعة على أي تأييد ذي قيمة على المستويات العربية والإسلامية والدولية، والتردد الأميركي، أُجهضت أي إمكانية لأي تصعيد ميداني ضد قطر، إذ بات واضحًا أنّ أي تهوّر بهذا الاتجاه لن توافق عليه أي من القوى الإقليمية أو الدولية، وهو خط أحمر سيحرق أصابع من يحاول تجاوزه.
قد يفسح استمرار هذه السياسة، بكل أخطائها، المجال مستقبلًا لتشكيل محاور جديدة، وقد يعني خروج تركيا من التحالف مع السعودي، في ظلّ النقمة التركية على موقف الإمارات من محاولة الانقلاب صيف العام الماضي، بل وقد يفتح الباب لمزيد من التنسيق مع إيران، في ظلّ رفض كليهما للتحرّكات الكردية في سورية والعراق، وهو ما تعتبره تركيا الخطر الرئيس على تماسكها الداخلي.
هل ثمّة محور سنّي من دون تركيا؟ وهل يمكن صبغ الصراع السياسي مع إيران بلونٍ مذهبي وطائفي في ظلّ تنسيق تركي إيراني محتمل؟ وما تأثير ذلك على الحلّ في سورية والعراق؟ أسئلة مطروحة بقوة بعد القرار السعودي الإماراتي أخيرا، ولعل الإجابة عليها تتنافى وبديهيات السياسة السعودية الإماراتية المعمول بها.
ويبقى سؤال مهم، لماذا أُقحمت حركة حماس في الخلاف، واعتبرها وزير الخارجية السعودية، عادل الجبير، إرهابية؟ وهل يشكّل ذلك جائزة ترضية مقدمة لترامب ونتنياهو الذي بات يكرّر دومًا هذه الأيام أنّ حلفاً عربياً صهيونياً قد تشكّل فعلًا؟ وما هي مهام هذا الحلف لاحقا في تصفية القضية الفلسطينية تحت شعار صفقة ترامب وبوابة الحل العربي، وكم حربا يستلزم تحقيق ذلك؟
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أنّ الأهداف الحقيقية لحصار قطر وقطع العلاقات معها لم تُعلن بعد من الدولتين الراعيتين هذا الإجراء، وأنّ الضجيج الإعلامي الذي أحاط بهذه العملية، وما رافقه من إسفاف وتزوير، يجعلان من الصعب على المراقب إدراك الهدف الحقيقي لمن قاموا به، مع إعلان قطر عن جهلها بدوافعه، ما يُفسح المجال لتكهنات مختلفة حوله تبتعد أو تقترب منه، لكنّي أظنّ، وليس كل الظنّ إثماً، أنّ ما أُثير عن تمويل الإرهاب وقائمته التي شكّكت بها الأمم المتحدة، وعن بعض السياسات الخارجية، بعيد عن الحقيقة؛ فقد شاركت قطر التحالف العربي بقيادة السعودية موقفها في اليمن، وأرسلت جزءًا من قوتها العسكرية إليه، على الرغم من التباين في موقف الحلفاء من الأطراف المحلية المتحالفة معها، وخصوصًا حزب التجمع اليمني للإصلاح والقوى الجنوبية. كما أنّ الموقف من سورية والعراق لم يكن متباعدًا كثيرًا، ولعلّ نقطة التباعد الرئيسة في السياسة الخارجية تمثّلت في الموقف من النظام المصري والربيع العربي. لهذا، قد يكون السبب الرئيس في انزعاج السعودية والإمارات يتعلّق
تجاوز الارتباك في إعلان الهدف إلى خللٍ كبير في تقدير الموقف ومعرفة ردّات الفعل عليه، وما يمكن أن ينجم عنه من مواقف أو رسم لسياساتٍ ومحاور جديدة، تعيد تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة. ففي داخل مجلس التعاون الخليجي نفسه، لم تقطع الكويت وعُمان العلاقات مع قطر، ولعلّ الدافع الرئيس لذلك عدم رغبتهما بألا تكونا نسخة طبق الأصل عن الأخ الأكبر. مع حرص الجميع، بما في ذلك قطر، على توطيد أواصر التعاون والتنسيق بين دول الخليج كافة. وبذلك، بدت الجبهة الداخلية لمجلس التعاون الخليجي ذاته غير متسقة الأهداف، فيما يتعلّق بإيقاع العقوبات على قطر وحصارها.
في المشهد العربي والإسلامي والدولي، بدا ذلك أوضح. لم يقطع العلاقات مع قطر سوى موريتانيا وموريشيوس التي دأبت دومًا على التصويت مع إسرائيل في المنظمات الدولية، أمّا الأردن فقد اكتفى بإغلاق مكتب قناة الجزيرة وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، في حين انحازت الدول الأوروبية، عبر وزير الخارجية الألماني، إلى الموقف الرافض للحصار والداعي إلى الحوار.
ثمّة خلل واضح في إدراك الموقف الأميركي وفهمه. لم يدرك متخذو قرار الحصار تعقيدات المشهد الأميركي، وربما توهموا أن إشارةً من الرئيس دونالد ترامب، لمحوها في وقت سابق، تعني ضوءًا أخضر لهم لتغيير الواقع في الخليج. لكن الوقائع جاءت من الجانب الأميركي لتثبت خواء هذا التحليل، ولتبرهن على عدم وجود قرار أميركي مجمع عليه في الإدارة الأميركية، وضمن دوائر الخارجية والدفاع، وهذا يفسّر حجم التناقض في التصريحات، فالواضح أنّ أوضاع ترامب الداخلية تحدّ من قدرته على فرض رأي في المشهد الخليجي، يسمح للسعودية والإمارات بالتمادي في حملتهما.
ثمّة خلل آخر أكثر فداحة يتعلّق بعدم القدرة على قياس نتائج هذا الإجراء على الاستراتيجية العامة للدول التي قامت به، إذ من المفترض، وبعد قمة الرياض أخيرا، أن يسعى المجتمعون إلى تشكيل محور إسلامي (سنّي) لمحاربة الإرهاب (تنظيم داعش وجبهة النصرة)، وأن يواجهوا ما أسموه خطر التمدّد الإيراني (الشيعي) في المنطقة. رفضت إيران الحصار، وأعلنت عن استعدادها لتخصيص ثلاثة موانئ إيرانية لتزويد قطر باحتياجاتها، وفتحت المجال الجوي الإيراني لعبور الطائرات القطرية. في حين قرّرت تركيا إرسال قوات إلى قاعدة عسكرية لها في قطر. وبهذين الموقفين، إضافة إلى عدم حصول إجراءات الحصار والمقاطعة على أي تأييد ذي قيمة على المستويات العربية والإسلامية والدولية، والتردد الأميركي، أُجهضت أي إمكانية لأي تصعيد ميداني ضد قطر، إذ بات واضحًا أنّ أي تهوّر بهذا الاتجاه لن توافق عليه أي من القوى الإقليمية أو الدولية، وهو خط أحمر سيحرق أصابع من يحاول تجاوزه.
قد يفسح استمرار هذه السياسة، بكل أخطائها، المجال مستقبلًا لتشكيل محاور جديدة، وقد يعني خروج تركيا من التحالف مع السعودي، في ظلّ النقمة التركية على موقف الإمارات من محاولة الانقلاب صيف العام الماضي، بل وقد يفتح الباب لمزيد من التنسيق مع إيران، في ظلّ رفض كليهما للتحرّكات الكردية في سورية والعراق، وهو ما تعتبره تركيا الخطر الرئيس على تماسكها الداخلي.
هل ثمّة محور سنّي من دون تركيا؟ وهل يمكن صبغ الصراع السياسي مع إيران بلونٍ مذهبي وطائفي في ظلّ تنسيق تركي إيراني محتمل؟ وما تأثير ذلك على الحلّ في سورية والعراق؟ أسئلة مطروحة بقوة بعد القرار السعودي الإماراتي أخيرا، ولعل الإجابة عليها تتنافى وبديهيات السياسة السعودية الإماراتية المعمول بها.
ويبقى سؤال مهم، لماذا أُقحمت حركة حماس في الخلاف، واعتبرها وزير الخارجية السعودية، عادل الجبير، إرهابية؟ وهل يشكّل ذلك جائزة ترضية مقدمة لترامب ونتنياهو الذي بات يكرّر دومًا هذه الأيام أنّ حلفاً عربياً صهيونياً قد تشكّل فعلًا؟ وما هي مهام هذا الحلف لاحقا في تصفية القضية الفلسطينية تحت شعار صفقة ترامب وبوابة الحل العربي، وكم حربا يستلزم تحقيق ذلك؟