إجهاض أي إمكانية لنهوض عربي

02 يونيو 2017
+ الخط -
ثمَّة انطباع سائد أن ما يجري في منطقتنا العربية هو "سايكس- بيكو" ثانية، لتفتيت المنطقة فوق تفتيتها، وتجزيء الدول القطرية العربية فوق تجزئتها. عمليا، يحتمل ما يجري في المنطقة هذا المعنى، ونحن نشهد أدلةً متزايدة عليه، وما العراق وسورية واليمن وليبيا إلا نماذج تبرز بين أخر. ولكن، هل تكفي مقاربة تفكيك المفكّك وتجزيء المجزّأ في فهم الكوارث التي تضرب منطقتنا من دون نهاية بادية للعيان في الأفق؟ لم أعد أؤمن بذلك، فما يجري أكبر من مشروع تفتيتيٍّ جديد في الجسد العربي، إنه يتجاوز ذلك إلى محاولة إجهاضٍ شرسةٍ لأي إمكانية نهوض عربيٍّ مستقبلي، ولو حتى بعد عقود.
عندما أقدمت الإمبراطوريتان، البريطانية والفرنسية، عام 1916، على تقسيم المشرق العربي، والذي كان خاضعا للدولة العثمانية، فإنهما فعلتا ذلك من واقع أنهما القوتان العالميتان الأبرز حينئذ. وقد أعمل البريطانيون والفرنسيون، ودول استخرابية (استعمارية) أوروبية أخرى، مباضع تمزيقهم في أجساد الأمم التي ابتليت بهم بناءً على مصالح كَيَّفوها لأنفسهم. ولا تزال القارات الآسيوية والأفريقية والأميركية الجنوبية تعاني من آثار الجراحات القَيْصَرِيَّةِ التي أعملها أولئك المستخربون، وترتب عليها إزهاق مئات الآلاف من الأرواح في صراعاتٍ عرقية ومذهبية وحدودية. لقد أراد الاستخراب الأوروبي أن يضمن أن المناطق التي حَلَّ بها طاعونه
لن تقوم لها قائمة إلى عقود مقبلة، حتى وإن تحرّرت شكليا، ويبدو أن الصِّيَغَ التي فرضوها على ضحاياهم قد بدأت تفقد بعضا من فَاعلِيَتِها الكارثية، ومن ثمَّ، كان من الضروري وضع صِيَغٍ كارثية وتدميرية جديدة، تضمن بقاء الإجهاض، ولكن هذه المرة، في ضوء بيئة دولية تبدلت فيها خريطة القوى الدولية. اليوم، لم تعد أوروبا مركز الثقل العالمي، وإن بقيت جزءا من بنيته، كما أن نظام الثنائية القطبية تلاشى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مطلع تسعينيات القرن الماضي. وبالتالي، فإن دولاً كثيرة فقدت هوامش التحرّك والمناورة التي أتاحها ذاك النظام، كما أنها خسرت مظلةً حمائيةً اعتمدت عليها. وهكذا، خلت الساحة إلى حين للاعب واحد، هو الولايات المتحدة الأميركية التي أرادت إعادة تشكيل النظام العالمي على أساسٍ من الأحادية القطبية، ولكن ذلك لم يطل مع انبثاق قوى إقليمية أخرى، ترنو إلى العالمية والنِّدِيَّةِ، كما الصين وروسيا، مع أن الطريق لا زال طويلا أمامهما.
دائما ما مثل العالم العربي، وخصوصا جناحه الشرقي، التحدّي الأهم والأخطر في المقاربات الحضارية والاستراتيجية والأمنية العالمية، وتحديدا الغربية. لا ينحصر تفسير الأمر باحتياطياته الواسعة من النفط، ولا حتى بوجود إسرائيل خنجرا في قلبه، بل الأهم والأخطر أنه يشكل ثقل الحضارة العربية - الإسلامية وعمقها ورصيدها الاحتياطي الذي لا غنى عنه في أي نهضة مستقبلية مرتجاة. إدراك الغرب هذه الحقيقة هي ما جعلته يجهض مشروع محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، ثمَّ ألحقها بضرب المشروع الناصري في القرن العشرين. وللتوضيح، لا يعني هذا اتفاقا وتأييدا للمشروعين بكل حيثياتهما، ولكن الاختلاف معهما في التفاصيل وكثير من الجوهر لا يعني أنهما لم يسعيا إلى التأسيس لنهضة، بغض النظر أضلوا الطريق إليها أم أصابوها، وبغض النظر عن الفشل الذي منيا به.
ما كان مطلوبا غربيا، في القرنين التاسع عشر والعشرين، هو إجهاض أي إمكانيةٍ لنهوض عربي وإسلامي في المنطقة، ولا يزال هذا هو الهدف اليوم، ونماذجه كثيرة. رأيناه في الالتفاف على الثورات العربية وإجهاضها. ثم رأيناه في التآمر على تركيا ومحاولة إسقاطها. ولا نزل
نراه اليوم عبر ترك سورية والعراق تحترقان وتتدمران ذاتيا، حتى لا تقوم لهما قائمة في المدى المنظور. الأخطر أن مشروع الإجهاض لأي انبعاث عربي مرتجى في المنطقة لا يقتصر فيه المتآمرون على الغرب وروسيا وإسرائيل، ولا حتى على إيران، بل ثمّة متآمرون من داخل الدار العربية. إنهم الذين أصابتهم الثورات العربية بالذعر، فلم يكتفوا بِهَنْدَسَةِ ثورات مضادّة، بل تراهم اليوم يمارسون أدورا مشبوهة في صيرورة التدمير الذاتي عربياً. إن المراقب ليصاب بالذهول مما يجري، حتى إنه ليخيّل إليه أنه تمثيلية سمجة. لمصلحة من يجري ما يجري في ليبيا واليمن، مثلا، وبأيدٍ عربية؟ حتى ولو حاولنا أن نتفهم مبرّرات معسكر الثورة المضادة العربي أن الثورات كانت مؤامرة، فكيف نفهم ما يفعلونه اليوم من محاولة إبقاء النار المستعرة في المنطقة متأججة؟
نعم، ما يجري محاولة إجهاض لمقومات أي انبعاثٍ عربي من هذا القاع الآسن الذي نقبع فيه، ولكن، وكما أن ثمّة أيادي تحاول دفعنا، دوما، من فوق إلى القاع عند كل محاولة تسلق إلى الأعلى، فإن ثمّة أيادي أخرى تسحبنا من قعر القاع نفسه إلى الأسفل. تلك الأيادي المحسوبة علينا هي الأخطر. إنها لا تملك رؤيةً للخروج من القاع، ولا هي تملك إرادةً أيضا، ولا هي تريد أحدا غيرها من القابعين معها في ظلمات الجهل والتخلف أن تحاول تغيير حالها. إنهم هم أنفسهم من تآمروا على المقاومتين الفلسطينية واللبنانية من قبل، فأي نصرٍ عربي يعني بالنسبة لهم إدانة فاضحة لهزائمهم ونكوصهم واستسلامهم. لذلك كله، الأخطر من التفتيت ومزيد من التجزيء هو كسر إيماننا أن صحوةً من غفوتنا ليست أمرا مستحيلا، ونهوضا من كبوتنا احتمال ممكن. ذلك هو ما يريدونه من كل ما يَصْنَعونهُ بنا، وأقصد بهم، كل عدو داخلي وخارجي، سواء بسواء.
دلالات